الأحد، 7 مارس 2010

قصة من 11-16

الفصل الحادي عشر
صراع على الملك وعلى شجرة الدر
ما أثر الانتصار على نفوس المصرين :
كان لهذا النصر أثر عظيم في نفوس الناس فقد أقيمت الزينات, ودقت الطبول وأعلنت الأفراح بهذا النصر العظيم
أخطاء توران شاه وأسباب قتله :
استقر الحكم لتوران شاه, فقد أهدت له شجرة الدر مصر على طبق من ذهب ولكنه لم يشكر نعمة ربه عليه, ولم يحفظ الجميل للمماليك الذين حموا مصر من خطر الصليبيين, فأبعدهم ورجال الدولة المخلصين وقرب إليه جماعته التي أتى بها معه من حصن كيفا, وخصهم بالمناصب والرتب العليا.
ولم يحفظ الجميل لشجرة الدر التي حافظت له على الملك, فأرسل إليها يطالبها بما لديها وما ليس لديها من الأموال والجواهر وبدأ يهددها ويتوعدها بالقتل.
كما أنه احتجب عن الناس وانشغل عنهم بالشراب واللهو, مما دفع المماليك يقرروا مع شجرة الدر الخلاص من ذلك الملك الذي لم يحفظ الجميل, وشجعهم على ذلك تنكر الناس له وبغضهم لحكمه.
وبعد أيام هجم عليه المماليك وقتلوه في سماطه بفارسكور تحت سمع الناس وبصرهم فما وجد من يغيثه أو يرحمه.
شجرة الدر ملكة مصر :
اتفق أمراء المماليك الصالحية وأعيان الدولة على تولى شجرة الدر حكم مصر, فنقش اسمها على النقود ودعي لها على منابر المساجد بـ (اللهم وأدم سلطان الستر الرفيع والحجاب المنيع وملكة المسلمين عاصمة الدنيا والدين, أم خليل المستعصمية صاحبة الملك الصالح......)
أين سجن لويس التاسع ؟
بعد أن تم القبض على لويس التاسع نقل إلى المنصورة مقيدا بالحديد, وسجن بدار القاضي (فخر الدين إبراهيم بن لقمان) وكلف بحفظة وحراسته (الطواشي صبيح المعظمي) كما اعتقل أخواه (شارلس وألفونسو) ووضعا مع كبار الأسرى.

مفاوضات تسليم دمياط والإفراج عن الملك الأسير:
دارت المفاوضات بين المندوب المصري والملك الأسير حول الانسحاب من دمياط, وتسليمها إلى المسلمين, ودفع فدية قدرها أربعمائة ألف دينار فدية جزاء ما خرب ودمر في بلاد المسلمين, , وجرى الاتفاق أن يؤدي نصف الفدية قبل إطلاق سراحه وأن يرسل النصف الآخر بعد وصوله إلى بلاده.
وذهب إلى زوجته (مارجريت) يجر أذيال الخيبة والهزيمة فلما لامته على أخطاءه أمرها بالسكوت حتى لا تجمع عليه عذاب القوم(المصريين) ومرارة اللوم.
وخفق العلم المصري على أسوار دمياط, وشيع المصريون آخر سفينة للصليبيين بين دمع الحزن على فقد الأحباب وبسمة النصر, فصاح الشاعر المصري في أذن الملك الخائب الذليل.....
أتيت مصر تبتغي ملكها تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فساقك لحين إلى أدهم ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكل أصحابك أودعتهم بحسن تدبيرك بطن الضريح
دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشي صبيح
عز الدين قائد الجيش :
تعددت الأسباب التي جعلت شجرة الدر وأمراء المماليك ينتخبون عز الدين أيبك ليكن قائد الجيش ويتقلد منصب التقدمية على العسكر, ومن ذلك,,
حسن بلاءه يوم معركة القصر فقد كان ومماليكه أول الحاضرين للدفاع عن القصر السلطاني, ومنع المعتدين عن القصر, حتى أتى غيره من بعده ليدافعوا عن القصر, مما رفع قدره عند شجرة الدر, هذا بالإضافة إلى علو سنه وتجاربه وحكمته وشهامته التي جعلت الأمراء يدينون له بالولاء والطاعة ويعترفون له بالسبق والأفضلية عليهم.
ولكن ما اجتمع الناس كلهم على إنسان قط, فقد كان هناك منافسين له يرون أنفسهم أحق بهذا المنصب,وعلى رأسهم الأمير فارس الدين أقطاي, ومن أتباعه ركن الدين بيبرس, ولكنهم رأوا تأجيل هذا الاعتراض إلى أن تأتي الفرصة المناسبة حتى لا يظهروا بمظهر المخالف لما اتفق عليه أكثر الأمراء.

ما موقف ملوك الشام والخليفة العباسي من تولي شجرة الدر الحكم :
بالنسبة لأمراء الشام لما علموا بمقتل توران شاه, وحلول شجرة الدر مكانه حتى طمع الجميع في ملك دمشق وبلاد الشام التابعة لمصر, وكان أقواهم في ذلك الملك الناصر صاحب حلب, الذي وثب على دمشق وملكها وأعلن انه سينتقم لنسيبه نوران شاه من شجرة الدر والمماليك الذين تآمروا على قتله.
أما في مصر فقد اضطرب الأمر واعتبر بعض الأمراء من غير المماليك الصالحية أن الناصر هو الوارث الشرعي لدولة بني أيوب, وتشيعوا له.
وزاد من الأمر كتاب الخليفة العباسي الذي غضب كثيرا عندما علن بأن القائم على أمر مصر امرأة فأرسل كتابا يقول فيه لأمراء مصر (إن كانت الرجال قد عدمت عنكم فأعلمونا فنسير إليكم رجلا)
تنازل شجرة الدر عن الملك لأيبك :
لم تجد شجرة الدر بد من خلع نفسها وتنازلها عن العرش للأمير عز الدين أيبك, قائد الجيش , فوافق الأمراء المماليك عليه وحلفوا له بالولاء والطاعة ولقبوه بالملك المعز, وأركبوه إلى قلعة الجبل حتى جلس على عرش الملك وجلسوا حوله على سماط.
أسباب استقرار الملك لأيبك سريعا :
أهم هذه الأسباب التي أدت لاتفاق الجميع حول عز الدين أيبك هو نفوذ شجرة الدر على المماليك فلم يكن هناك من يستطيع أن يعرض أمرها.
ثم أنهم خافوا من ضياع السلطة من بين أيديهم إذا ازدادت قوة أنصار الملك الناصر ونجحوا في ضمها لسلطانة فينتقم منهم على قتلهم توران شاه.
وبذلك وحد الخطر كلمة المماليك وأسرعوا في الموافقة على اختيار أيبك للملك.
تمرد أقطاي على سلطة الملك المعز : (كيف أفسد أقطاي أمر الملك على أيبك؟)
لم يترك أقطاي غريمه ومنافسه أيبك لينفرد بالحكم وتستقر له الأمور فينتهي بذلك حلمه في الحكم, ولكنه لم يجرؤ أن يطلب الحكم لنفسه, فأراد أن ينقص من سلطة الملك المعز ليستطيع أن يتدخل في شؤون الدولة حتى يأتي الوقت المناسب ليطلب الملك لنفسه.
فأسرع ودعا الناس إلى تولية أمير من البيت الأيوبي ملك مصر ليجتمع عليه الناس وأمراء بني أيوب فتبطل بذلك حجة الملك الناصر صلاح الدين في ملك مصر ووراثة البيت الأيوبي, فأسرع الناس وبعض الأمراء للموافقة على هذا الرأي لقوة برهانه فأيدوه وجهروا بأنهم لا يريدون إلا ملك من البيت الأيوبي.
طفل صغير شريكا للمعز في الملك :
اجتمع الأمراء واتفقوا على أن يقيموا صبيا من البيت الأيوبي ملكا شريكا لعز الدين أيبك, على أن يكون للصبي اسم الملك فقط ولهم هم الحكم والتدبير, فاختاروا (موسى بن الملك مسعود) ولقبوه بالملك الأشرف وكان عمره ست سنوات.
وأصبح اسم الملك الأشرف يظهر على العملة وفي التوقيعات بجانب اسم الملك المعز, ودعا الأئمة والخطباء لهما على المنابر, وركب الملكان المعز والأشرف وشقا القاهرة بين الجماهير المحتشدة لرؤيتهما فكان المعز أمام الأشرف يحجبه بعصا كانت بيده , وأمامها الأعلام والأمراء يتناوبون حمل الغشية (غطاء السيف) واحد بعد الآخر.
هل للصبي أي تأثير على سلطة المعز:
بالطبع لا فالصبي الصغير ليس له إلا الاسم أما أيبك فكان له الأمر كله فلم يفقد بهذا الملك الصغير شيء, مما أغضب فارس الدين أقطاي في بداية الأمر وظن أنه لم يفعل شيء, ولكنه سرعان ما استراح لأنه حقق بعض أهدافه وهي أنه لم يعد لعز الدين أيبك الحق في الاستبداد بالأمر دون بقية الأمراء, فأصبح بهذا الصبي من حق أقطاي وغيره من الأمراء أن يعترضوا على سياسة عز الدين أيبك ومن حقهم التدخل في شئون المملكة باسم الملك الصغير, وقرر أقطاي أن يؤجل مطامعه في الملك حتى تأتيه الفرصة.
كيف حاول أيبك أن يتخلص من مؤامرات أقطاي ؟
لم تخف على أيبك مطامع أقطاي فأراد أن يشغله عنها بقتال الملك الناصر صاحب دمشق الذي جهز جيوشه لغزو مصر, فجعل لأقطاي قيادة المماليك البحرية أمره بالسير إلى الناصر ليحاربه, فانطلق أقطاي بألفي فارس حتى لقي جموع الناصر في غزة فحاربهم وهزمهم وعاد إلى أيبك ولسان حله يقول "هأنذا عدت إليك أقوى مما كنت"
ما الذي جعل أيبك مطمئن النفس بملكه؟
لقد كان يعتمد على ركن قوي وهو شجرة الدر فتأكد أنه مهما حاول أحد الأمراء بما لديه من قوة ونفوذ وكثرة أتباع أن يبعده عن عرش الملك فلن يستطيع , فعلى الرغم من اعتزال شجرة الدر الملك فكان لها الكلمة الأولى على الجميع.
كيف كانت قوة شجرة الدر من وراء الأستار ؟
لم يفقد شجرة الدر نفوذها وسلطتها بل كان نفوذها ماضيا على كل الأمراء ترفع من تشاء وتضع من
تشاء, وكان الجميع يعرف عنها ميلها لعز الدين أيبك وثقتها به فلم يجرؤ احد على الاعتراض على اصطفائها له وتقريبه خوفا من غضبها.
ما الذي عرفه المماليك عن شجرة الدر ؟ (بم كانت تتصف شجرة الدر؟)
وكذلك عرفوا عنها حبها الشديد للسلطة وعشقها للنفوذ والقوة,وأنها لم تنزل عن الملك إلا مغلوبة على أمرها, فكانت ترى في نفسها الجدارة لحكم, ولم يمنعها من ذلك إلا مانع طبيعي وهو أنها أنثى, فتغلبت على هذا العامل الطبيعي بأن تضع في الواجهة رجل من المخلصين لها فاختارت أيبك
لماذا اختارت أيبك دون غيره ليكن ملك على مصر ؟
كان اختيارها لها على أساس أنه أطوع الأمراء لها, وأخلصهم لزوجها كما أنه ليس له من كثرة الأتباع والمماليك ما يدفع للطمع في الملك والخروج على طاعتها والتخلص من سيطرتها.
كيف حاولت شجرة الدر أن تضمن السيطرة على كل المماليك وبقاء نفوذها عليهم؟
لم تقصر شجرة الدر عطفها وثقتها على أيبك وحده, بل جعلت لبقية المماليك نصيب من ذلك لكي تضمن به ودهم لها ودفاعهم عن حقها إذا تنكر لها أيبك وأراد الاستئثار بالحكم دونها.
فكانت تشعرهم دائما بأنها لم تختر أيبك لأفضليته عليهم أو قربه من قلبها, ولكن لتحفظ سلطتهم ومقامهم, فليس لأيبك من القوة والشراسة وحب الاستبداد ما يجعلها تخاف عليهم منه.
حب وخضوع :
ولعلم أيبك بأسباب اختيار شجرة الدر له كان يتقي غضبها ويبالغ في استرضائها,ولا يقطع أمرا دونها ولم يكن ذلك عزوفا منه عن السلطة والنفوذ حتى ولو تظاهر بذلك أمام الناس, ولكن كان ذلك لحبه الشديد لها, فكان يحتمل نفوذها عليه وتحكمها فيه بل يجد في ذلك لذة ومتعه.
ما الذي منع أيبك من التصريح بحبه؟
لقد كان حييا عفيفا لا يكاد يرفع عينه إليها وإذا حدثها حدثها بوقار واحتشام كأن زوجها الملك الصالح مازال حيا, هذا بالإضافة لأنه كان يهابها فيرى أنه من المستحيل تصريحه بحبه لها.
حب شجرة الدر لأيبك :
شعرت شجرت الدر بحب أيبك لها فبادلته الحب ولكنها غالبت شعورها خشية أن يدفعها حبها للخضوع له فتفقد السلطة والنفوذ فأرادت أن تكون حرة لا يقيدها حب ولا نزوة.
هل ضاع أمل شجرة الدر في الزواج ؟ (لماذا أخفت حبها لأيبك ؟)
بالطبع لا فهي لم تبلغ من السن ما يجعلها تفقد الأمل في الزواج, ولكنها خشيت إذا اختارت أيبك زوجا لها ألا يحفظ لها السلطة والنفوذ ولا ينازعها هذا الحق.
بل من يضمن أن يبقى الحكم لأيبك ولا ينزعه من يده أحد الأمراء خصوصا أن التنافس بينه وبين كثير من الأمراء مازال مشتعلا وبخاصة مع أقطاي, فأرادت أن تفكر تفكيرا جيدا حتى ترى لمن تكون الغلبة في النهاية فتمد إليه يدها.
كيف كانت علاقة قطز بأستاذه أيبك ؟
لقد كان قطز شديد الإخلاص لأيبك لثقة أستاذه به واعتماده عليه في المهمات وكذلك لعفة أيبك ودينه, فأحبه قطز وأخلص له, وكان بعمل بكل جهده ليقوي ويثبت أقدامه بجمع ما يستطيع من الأتباع والمخلصين حوله , وكان يعلم كثرة المنافسين لأستاذه وبخاصة أقطاي ذلك المغامر البطل الذي يفوق أستاذه بكثرة خشداشيته وأتباعه وبخاصة بيبرس.
ولما رأى أن أستاذه يستمد نفوذه من شجرة الدر ولا أمان لها لأنه من السهل أن يستميل قلبها أحد الأمراء فتنقلب على أيبك رأى أن الضمان الوحيد لبقائه في السلطة أن يتزوجها.
ما الذي شجع قطز ليفكر في زواج أستاذه من شجرة الدر ؟
لم يشجع قطز على هذه الفكرة إلا أنه كان يعلم رغبة أستاذه فيها, وحبه الشديد لها على الرغم من إخفاء أيبك الأمر عنه, ولكنه فاتحه في الأمر فأعرض أيبك في بادئ الأمر وادعى أنه لا يفكر فيها لوما ألح عليه قطز لم يجد أيبك من حرج في الإفصاح عما يجول في صدره لمملوكه الأمين.
كيف استطاع قطز أن يقنع أيبك بخطبة شجرة الدر؟
في البداية حذره من كلام الناس عنه وعنها فلم يهتم أيبك بكلامهم, فلما ألح عليه قطز أخبره بمكنون نفسه, ثم استطاع أن يثيره عندما أخبره بأن أقطاي تقدم إليها وطلبها لنفسه مما جعل أيبك يفكر في الأمر جديا ولكنه لم يستطع أن يحدثها في الأمر رغم محاولته أكثر من مرة
كيف انتهى حديث قطز وأيبك حول الزواج من شجرة الدر ؟
انتهى الحديث بأن يكون قطز لسان أيبك لدى السلطانة , ولما أراد أيبك أن يعرف ماذا سيقول قطز
لها فقال له دع هذا لما يمليه الموقف.
ما هدف قطز من اقتراحه بالذهاب لخطبة السلطانة لأيبك ؟
ضحك أيبك من تلميذه وقال قد عرفتك إنما تريد أن ترى تلك الوصيفة (جلنار), فتبسم قطز وقال لا أخفي عليك فإني أطمع أن أفوز منها بنظرة ولا أظن أنك تبخل بها علي جزاء خدمتي,
متى آخر مرة رأى فيها قطز جلنار ؟ وبما وعدته السلطانة ؟
ثم تحدث عن آخر مرة رآها فيها عندما استدعته الملكة لتثني عليه لقتله (الكند دارتواه) فقالت له شجرة الدر أتحب هذه الوصيفة؟ فنظر فرأى جلنار واقفة أمامه فلم يستطع أن يجيبها للمفاجئة ثم سألته أتريد الزواج منها؟ فقال لا أرفض نعمة مولاتي, فلما سألته عن الوقت قال خير البر عاجله, فقالت الملكة لن يحدث حتى ينقضي الحزن على السلطان.
فقال أيبك لن ينقطع الحزن على السلطان إلا بزواج السلطانة, فأسرع قطز نعم يا سيدي فتزوجها من أجلي أن لم يكن من أجلك وخلصني من هذا الحزن الطويل.
فضحك أيبك طويلا ثم قال إذا فأنا الذي أستحق منك الجزاء.
كيف فاتح أقطاي شجرة الدر في رغبته بالزواج منها؟ وما أثر ذلك عليها؟
لم يكن قطز يكذب فيما قال عن خطبة أقطاي لشجرة الدر, بل ذهب أقطاي بنفسه فعلا إلى شجرة الدر وطلبا لنفسه دون رهبة أو تردد فقد كان جريئا لدرجة أن الحياء لم يعرف طريق إليه أثناء
حديثه معها في أمر زواجها.
حتى أن شجرت الدر فوجئت بهذا الطلب الصريح الجريء ولكنها ملكت أعصابها وقالت في هدوء إنها لا ترفض طلبه ولكنها لا تريد التفكير في الزواج بشائر الحرب على الأبواب, فيجب أن تتخلص أولا من صاحب دمشق الملك الناصر الذي يريد أن يغزو مصر.
وقد رأى أقطاي أن ذلك موافقة غير صريحة منها فاطمأن قلبه وجعل كل همه القضاء على خطر الملك الناصر وجنده.
قطز لسان أستاذه لطلب شجرة الدر: (كيف فاتح قطز في رغبة أستاذه بها ؟)
لقد كان قطز ذكيا فلم يفاتحها مباشرة في رغبة أستاذه في زواجها, ولكنه عرض لذلك بطريقة طريفة, فقد قال " إن أستاذي بعثني إليك في أمرين الأول أن تنجزي وعدك لمملوكه وتزوجيه بالوصيفة جلنار, والثاني أنه يعلم أنك لا تستطيعين أن تفارقي وصيفتك وهو لا يستطيع أن يفارقني, ولذلك فهو يتوسل إليك أن تسمحي لنا أنا وهي بخدمتكما معا"
فسكتت الملكة هنيهة ثم سألته في هدوء وأي الأمرين أحب إلى أستاذك, ففرح قطز لإدراك ما يرمي إليه فقال وأنها تريد أن تتأكد من معنى كلامه فقال مسرعا "الأمر الثاني يا مولاتي"
فقالت له وكيف عرفت ذلك, فقال لأن الأمر الثاني يضمن الأمرين معا.
أثر كلام قطز على شجرة الدر :
فما سمعت بذلك إلا وتورد وجهها خجلا وصفقت فأتي إليها بكوب ماء فشربت منه ثم التفتت إلى قطز بعد أن عاد إليها هدوئها وقالت ارجع إلى أستاذك فقل له إن الملكة لا تستطيع أن تقيم عرسا وجنود الناصر على الأبواب.
فاعترض قطز وقال إن في هذا ظلما لي وإخلاف لوعدي, ولما سألته عن سبب ذلك قال لها " يا مولاتي هل لي أن أقول لأستاذي بأن الملكة لا تستطيع أن تقيم عرسين في القصر وجيوش الناصر على الأبواب ؟
فأجابته بين التقطب والابتسام, قل له ما بدا لك أيها المملوك الماكر,وانصرف من هنا, فانصرف قطز وهي تتبعه ببصرها وتقول في نفسها, لا خوف على أيبك وهذا المملوك عنده.
قطز يبين لأستاذه حب شجرة الدر له :
وبدأ قطز يبين لأستاذه حب شجرة الدر له ويعلمه بأنها تعده بقبول طلبه إن هزم الناصر وجنوده, ولم يكتف قطز بأن نقل كلام شجرة الدر, بل راح يشرح له ما فهمه وقرأه على وجهها من إعجابها به وحبها له, ولما شككه أيبك فيما يقول أسرع قطز وقال لقد عرفت حبك لها قبل أن تنطق به لي, وبنفس الطريقة علم قطز حبها له.
انتصار أيبك على الملك الناصر :
قرر أيبك أن يسير بنفسه لملاقاة الملك الناصر ولا يترك الأمر لقواده حتى لا ينفرد أقطاي بنصر ذلك اليوم, وكان الملك الناصر قد جهز جيشا كبيرا لحرب المماليك لأخذ مصر منهم, وانضم تحت لوائه الكثير من ملوك بني أيوب بالشام وأشهرهم الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق السابق, والتقى أيبك بجيش الناصر بالرمل بين الخشبى والعباسية, فدارت المعركة وكان أولها للملك الناصر حتى أن بعض جنود مصر حضروا القاهرة في اليوم التالي (الجمعة) فظن الناس أن الناصر انتصر على المماليك فخطب له في جوامع البلاد, إلا جامع القاهرة حيث كان يخطب فيه الشيخ العز بن عبد السلام.
وبمجرد انتهاء الصلاة وردت البشائر بالنصر فزينت القاهر لاستقبال الملك المنتصر, وكان من بين الأسرى الملك الصالح إسماعيل,فلما مر الموكب الذي به الأسرى على قبر الصالح أيوب صاحت المماليك البحرية, يا مولانا أين عينك تعرى عدوك إسماعيل؟
ما أثر انتصار أيبك على نفس أقطاي ؟
لما عاد أيبك استقبله الملك الصغير وهنأه بالنصر, فأسرع أقطاي يقول كل ما حصل إنما حصل بسعادتك ونحن نسعى لتقرير ملكك يا مولاي, وكأنه يقل لأيبك "إياك أعني واسمعي يا جاره"
ما هم قطز الأول بعد النصر على الملك الصالح ؟
ولقد جعل قطز همه الأول ذلك السجين الملك الصالح الخائن لله ورسوله وللإسلام, فأشار على أستاذه بقتله جزاء له على استعانته بالصليبيين على المسلمين فلما تردد أيبك في ذلك استخرج قطز فتوى من الشيخ ابن عبد السلام تجيز قتله, فأمر المعز فقتل الصالح إسماعيل خنقا.
صراع الرسولين للفوز بالسلطانة ؟
وبانتهاء الخطر لم تعهد لشجرة الدر حجة في التأجيل, فأرسل كل من أقطاي وأيبك رسوليهما لحصلا على موافقة شجرة الدر, فكانت تقابلهما بالترحاب وتحسن الإصغاء لحديثهما.
أما بيبرس رسول أقطاي :
إذا ذهب إلى شجرة الدر حدثها عن صديقه وشجاعته وقوته وبأسه في المعارك, وحدثها عن كثرة أتباعه وأشياعه, ثم يتحدث عن وقائعه وانتصاراته على الأعداء فيستولي بذلك على مشاعرها وأحاسيسها, فقد كان يصف ذلك وصفا عجيبا حتى كانت شجرة الرد تشعر كلما جاءها أنها في ساحة نزال تسمع صليل السيوف وحفيف السهام وصهيل الخيول, وترى الفارس الجبار أقطاي يهجم على أعداءه ولا يفر منهم.
ولكن قلما يصف لها بيبرس حب أقطاي لها ورغبته فيها وإذا ذكر ذلك ذكره في كلمات قليلة ضعيفة لا تدخل القلب لأنها لم تخرج من القلب, وكيف يصف بيبرس شيء لا يعرفه (الحب) ولم يشعر به يوما, ولماذا يترك ما يجيد الحديث عنه ويتعب نفسه في إسماعها ما لا تقبله منها (حديث حب أقطاي لها), ولذلك كان يكتفي بذكر الوقائع في ميادين القتال.
قطز رسول الحب الغرام :
فإنه لم يعدد لشجرة الدر ما تعلمه من وفاء أستاذه وقوته بل كان يكتفي في ذلك بذكر عفته ودينه
وصدقه وأمانته, وكان يفيض في شرح ووصف حب أستاذه لها ويصور لها مشاعر قلبه واضطرابه من شدة حبه لها, وفي أثناء ذلك يصف صورتها في عينيه حيث يراها أيبك جميلة رائع نقية طاهرة وجامعة بين محاسن الخلق (جمال الصورة) ومكارم الخلق (سمو الأخلاق).
هل كان يقصد قطز بهذا الكلام الملكة شجرة الدر ؟
بالطبع لا, فإذا وقف أمامه وبث لها آلام الشوق ونار الحب, ومرارة الشكوى والحنين فكان ينسى أن من أمامه هي السلطانة وكان يخيل إليه أنه يحدث حبيبته جلنا وهي جالسة أمه حيث تجلس السلطانة.
فكان حديثه خارج من أعماق قلبه الحزين على فراقه والمشتاق لوصلها, ولا عجب في أن تصل كل كلمة من كلامه إلى قلب شجرة الدر فتقع منها موقع الماء من العطشان, فما تملك نفسها أن تتنهد من حين لآخر دون أن يشعر بها قطز, ولولا حيائها وكبريائها أن يظهر عليه الضعف أمام المملوك الرسول لأرسلت دموعها وعلا نحيبها.
وصيفات الملكة ينقسمن حول الرسولين :
وقد شعرت الوصيفات بما يحدث بين الملكة ورسولي الخاطبين, فأخذن يتربصن وصول الرسولين فيقفن خلف الأستار على أطراف أرجلهن يسمعن حديث الرسولين وتنافسهما على قلب شجرة الدر أيهما يفوز به لصاحبه, فإذا انفض الحديث عادت الوصيفات إلى أماكنهن كأنهن لم يعلمن شيء.
وقد انقسمن حول الرسولين فأكثرهن تشيع لقطز وأقلهن تشيع لبيبرس, وكان في الفريق الثاني حواسد جلنار اللاتي لا يرغبن أن يشاهدن حبيبها يتفوق, فيتعمدن الحط من قدره ومن أستاذه ويبالغن في رفع بيبرس وصاحبه.
مما خافت جلنار؟ وما أثر خوفها عليها؟
جلنار كانت تستمع إليهن في صمت, دون أن تشاركهن الحديث وإذا أرادت أن تستمع لما يجري وقفت بعيد عن بقية الوصيفات, وخطر لها يوما أثناء سماعها لحديث بيبرس أنه قد يستطيع أن يستميل قلب شجرة الدر ويفوز بها لصاحبه أقطاي فتزوجه لها, فأصابها الدور وكاد يغشى عليها لولا أنها سحب نفسها إلى سريرها, وقررت من يومها ألا تستمع لحديثه مع شجرة الدر واكتفت بسماع حديث حبيبها قطز عن أستاذه.
وكانت إذا سمعت حديث قطز شعرت بأنه إنما يسوقه إليها لا إلى شجرة الدر, فما تملك حبس دموعها فتسيل على خديها.

مناجاة قطز للسلطانة :
لقد سمعت جلنار حديث قطز إلى شجرة الدر, ومنه أنه قال لها "أيتها السلطانة العظيمة, يا أجمل غانية رويت بماء النيل, لا تعجبي إذا قصرت في تصوير ذلك الحب العظيم الذي ضاقت به الدنيا ووسعه صدر من بعثني إليك, ولا تعجبي إذا أنا أحسنت البيان, فقد أعارني أستاذي قلبه النابض الكبير وأعرته لساني العاجز القصير, وأيقني أن لساني مهما أجاد التصوير وأفاض في التعبير فإنه لا ينال من مكنون ذلك الصدر إلا مثل ما يعلق بمنقار الطائر من ماء البحر.
مولاتي السلطانة يا أجمل غانية رويت بماء النيل, لو كان أستاذي مجوسيا لكنت ناره التي يعبدها ولو كان وثنيا لكنت صنمه الذي يتوجه إليه ولكنه مسلما صادق الإيمان, فأنت كعبته وصلاته, وأنت الزلفى (القربى) التي يتقرب بها إلى الله.
مولاتي السلطانة يا جمل غانية رويت من ماء النيل, لقد ضرب الحب مثلا أميرا وأميرة, وابني عم صغيرين نقلتهما الأقدار من نعيم الملك إلى أيدي اللصوص, فباعوهما في سوق الرقيق, فعاشا معا في كنف مولى صالح,وعدهما بالعتق والزواج لمكان حبهما فمات قبل أن ينجز وعده, فتفرقا في أيدي المالكين, وباعدت بينهما البلاد, فظل كلاهما دهرا يحن إلى أليفه حنين اليأس, إلى أن جمعتهما الدار يوما فرآها بعد القنوط فثار به حبه القديم, فو الله الذي فلق الحب وبرأ النسمة, للحُبُ الذي أجتهد في شرحه بين يديك أعظم من حب ذلك الأمير لابنة عمه الأميرة .
منافسة أيبك وأقطاي في التخلص من خطر الناصر :
لم تجب الملكة على الرسولين إلا بكلمة واحدة: إن خطر الناصر على مصر ما زال قائما, وأنها لن تفكر بالزواج حتى يزول, فكان يسرع أقطاي ليقود الحملات للقضاء على خطر الناصر, ولا يترك له أيبك شرف النصر منفردا, فيقود الجيوش بنفسه وينيب على المملكة مملوكة قطز, وهكذا وبعد زمن تقرر الصلح بين الناصر ومصر, على أن يكون للمصرين الحكم إلى الأردن بما في ذلك من ( غزة والقدس ونابلس والساحل كله) والناصر له ما وراء ذلك.
انتهت حجة شجرة الدر فلماذا لم تختر زوجا :
لم تعدم شجرة الدر الحجج التي تؤجل بها اختيار زوجها, فعلى هذا الاختيار سيكون مستقبلها كله فأرادت أن تجعل هذا المستقبل آمن تضعه في يد من يصونه لها, فلكل منهما ما يجذبها إليه فأيبك يحبها ويخضع لها أما أقطاي فهي تعجب بقوته وشجاعته, ولكن قلبها مال لأيبك, ولكنها رأت أن تأجج نار المنافسة بين الخصمين لتتبين ماذا يفعل أيبك إذا ما جهر أقطاي بعداوته ومنافسته, فقالت لرسول أيبك قل لأستاذك إني لا أقبل أن أتزوج نصف ملك فإذا صار ملكا تزوجته.

انفراد أيبك بالملك :
جاء تلميح شجرة الدر لأيبك بعزل الملك الصغير موافقا لما في نفس أيبك من شعوره بنقص ملكة وعدم ثبات أركان دولته لتدخل الأمراء وبخاصة أقطاي في شئون الدولة لحجة هذا الملك الصغير وكان قد فكر في عزله قبل ذلك, فما رأى تلميح شجرة الدر قوى ذلك في نفسه.
وبعد أيام انفرد الملك المعز بحكم الدولة, فقبض على الصبي الصغير وسجن بالقلعة, وأزيل اسمه من الخطبة, وهو لا يعرف مال الذي فعله ليصبح ملكا وما الذي أجرمه ليسجن بعد ذلك.
ما أثر انفراد الملك المعز بحكم مصر على أقطاى :
كبر الأمر على أقطاي حتى أنه جمع أشياعه وأتباعه واستعد للوثوب على الملك واستلاب الملك منه, ولكنه أجل ذلك قليلا حتى يرى ما تفعل شجرة الدر, وما منعه من ذلك إلا خوفه من إثارة خوف شجرة الدر فتقلب عليه المماليك ولا يوجد فيهم من يستطيع أن يعصى أمرها فكلمتها مسموعة للجميع, كما أنه مازال لديه أمل في الحصول على رضاها والزواج بها خصوصا أنها تتلقى بيبرس بما يسره, ويفهم منها أنها للغالب منهما.
فقرر أن يثير الاضطراب والقلق في البلاد كيدا في الملك المعز, حتى إذا انتشرت الفوضى لم يجد الناس من ينقذهم منها إلى أقطاي.
فأمر رجاله من المماليك البحرية بأن ينشروا الفساد في البلاد, فتطاولوا على الناس واعتدوا عليهم فأخذوا أموال العامة ونسائهم وأولادهم بأيديهم وفي وضح النهار ولا يستطيع أحد ردهم حتى كانوا يدخلون الحمامات فيأخذون النساء منها غصبا, فإذا عتب أحد على أقطاي قال لا قوة لي بهم اذهبوا للملك المعز ليكفكم شرهم.
كيف حاول أيبك أن يرضي أقطاي؟ وما أثر ذلك على أقطاي ؟
حاول أيبك أن يسترضي أقطاي فأغدق عليه الأموال أقطعه الإسكندرية وكتب له بذلك طمعا في أن يكف عن شره, ولكن أقطاي رأى في ذلك ضعفا من أيبك وبداية لانتصاره فزاد طمعه وزاد أمله في الانتصار عليه.
ما أثر فساد أقطاي على أيبك ؟
نظرت شجرة الدر لما صار إليه أمر المنافسة بين الخصمين, فرأت أن السلاح الذي استخدمه أقطاي سيرتد عليه في يوما ما فيقضي عليه, فقد غضب الناس من فساد أتباعه وأخذوا يجهرون بالشكوى منه, فأسرعت وأعلنت الملك المعز بقرارها الزواج منه.
وفوجئ الناس بزفاف الملكة شجرة الدر إلى الملك المعز أيبك, وإقامة الزينات والأفراح في القلعة وسائر المملكة المصرية, فقدمت الوفود تهنئ لزوجين بالزواج السعيد.
انتقام أقطاي من أيبك وشجرة الدر :
غض أقطاي من شجرة الدر غضبا شديدا فقد أدرك أنها كانت تخدعه, ولذلك قرر الانتقام منه ومن زوجها الملك المعز.
أما انتقامه من المعز :
فقد جمع أتباعه وأشياعه وهدد بهم غيرهم من المماليك البحرية لينضموا إليه ويبسط نفوذهم عليه, ثم استبد بالأمر ووضع مقاليد السياسة في يد أصحابه حتى لم يعد للملك المعز معهم أمر ولا نهي, فإذا أمر لأحدهم بشيء أخذ أضعافه وإذا أمر لغيرهم بشيء لم يستطعه الحصول عليه.
واجتمع الكل على باب أقطاي فكانت الكتب تصل إليه ولا يجرؤ أحد على فتحها أو الرد عليها, ولم يستطع أيبك أن ينفذ أمرا إلا بوجوده.
أما عقابه لشجرة الدر :
فقد رأى بان عقابها والانتقام منها لا يكون إلا بإنزالها رغم عنها من قلعة الجبل, لتحل محلها زوجة من بنات الملوك, حتى فوجئ الناس ذات يوم بنبأ عظيم وهو أن أقطاي قد صاهر الملك المظفر صاحب (حماة) وأن ابنته حملت إلى دمشق في موكب عظم لتحمل إلى زوجها صاحب الأمر والنهي في مصر.
ثم ركب إلى أيبك يخبره بأنه صاهر الملك المظفر صاحب حماة وطلب الإذن بأن يسكن هو وزوجته بنت الملوك قلعة الجبل, فلما رأى تردد أيبك في الإجابة قال إن كنت تريد استشارة شجرة الدر فلا أظن أنها تستكبر أن تترك القلعة لأميرة من بيت مواليها وأولياء نعمتها.
ما الذي أخاف شجرة الدر؟ وما الحيلة التي دبرتها لتتقي ذلك ؟
لما أيقنت شجرة الدر بانتقام أقطاي ورأت فيه خطر كبير عليها وعلى ملك زوجها حيث كان أقطاي يتحداه, قررت أن تتخلص منه حماية لنفسها ولملك زوجها قبل أن يتخلص هو منهما.
فأوعزت لأيبك ألا يعرضه في شيء وأن يظهر له الرضا, ثم أوعزت لقطز أن يخبر صديقه بيبرس أن الملكة قررت النزول عن قلعة الجبل وتركها للأميرة القادمة, ونفذت شجرة الدر ذلك بالفعل فجعلت تظل نهارها هي والملك المعز في قصر القلعة فإذا أتي الليل نزلت بحاشيتها وجواريها إلى قصر أخر أسفل القلعة أضاءت فيه المصابيح.
فلما رأى أقطاي ذلك ظن أن شجرة الدر قد عجلت بالنزول وإخلاء القلعة حتى لا تأتي زوجته الأميرة إلا وهي (شجرة الدر) في قصر آخر لتبعد عن نفسها معرة الخضوع لإرادته, فاطمأن وظن أن الملك سينم له.
تحريض قطز لقتل أقطاي :
أرسلت شجرة الدر لمملوك زوجها قطز وقالت له إني أريد أن أفي لك بوعدي وأزوجك بوصيفتي جلنار, ولكني لا أحب أن يتم عرس وصيفتي الأثيرة إلا في قلعة الجبل وأنت تعلم أننا أخليناها لذلك الذي لا يقدر عليه أحد ليسكنها مع زوجته.
ففهم قطز أنها تحرضه على قتله, وتعده بإنجاز وعدها له إذا قدم رأس أقطاي مهرا لجلنار, وكان في ذلك قربا من نفسه, فقد رأى أن الملك لا يستقر لأستاذه إلا بزوال أقطاي من الوجود فقد أظهر في الأرض من الفساد ما يجعل دمه حلالا فيتقرب به إلى الله عز وجل.
خطة قتل أقطاي :
وافق قطز على قتل أقطاي وأعلن أنه كفيل بقتله وحده, فاتفق الثلاثة على أن يدعو أيبك أقطاي للقلعة حتى إذا دخل الدهليز ظهر له قطز وقتله, وأشار المعز على قطز أن يختار مجموعة من الفرسان الشجعان الأمناء ليساعدوه في ذلك, فم يوافق قطز ورأى أنه كفيل به وحده.
فحذره أيبك من قوة أقطاي وهم مازالوا بحاجة إليه, وأنه لو أفلت أقطاي فسيكون في ذلك هلاك لهم جميعا, ومازال أيبك وشجرة الدر يقنعانه حتى رضي بأن يعاونه في ذلك اثنان من مماليك المعز هما (بهادر وسنجر الغتمي)
متى حانت ساعة الصفر للقضاء على أقطاي ؟
كانت الصداقة مازالت مستمرة بين قطز وبيبرس فإذا أراد أحدهم الخروج للصيد دعا الآخر فخرج معهم, فجاء إليه بيبرس في يوم يدعوه للخروج للصيد مع عدد كبير من كبار أشياع أقطاي, ورأى قطز أن الفرصة سانحة لتنفيذ الخطة فوافق, فلما أصبح الصباح أرسل قطز لبيبرس يعتذر له بانحراف مزاجه فخرج بيبرس وأصحابه.
مقتل فارس الدين أقطاي على يد قطز :
خرج بيبرس وأصحابه فأسرع قطز يخبر أستاذه بأن الوقت جاء لتنفيذ الخطة, فأرسل أيبك لأقطاي
يطلب منه الحضور للقلعة حتى يستشيره في أمر هام, وكان أقطاي قد اطمأن لأيبك لما أظهره من موافقة على نزول شجرة الدر من القلعة, وقد نصحه مماليكه بأنه خدعة وأنه لابد ان ينتظر بيبرس وسنقر الأشقر وغيرهم من أصحابه حتى يعودوا من الصيد, فرفض قال إني لا انتظر حتى يرجع هؤلاء ولكن هؤلاء يجب أن ينتظروا حتى أرجع, وذهب دون اهتمام بنصيحة مماليكه.
وركبوا معه خشية عليه, فما وصل القلعة ودخل إلى قاعة العواميد أغلق باب القلعة ومنع مماليكه من الدخول فأحس بالشر ومنعه كبريائه من الرجوع فمضى في طريقه ويده على مقبض سيفه, فلما رأى قطز وصاحباه قال لهم بهجة الآمر اذهبوا فافتحوا الباب لمماليكي.
فأمر قطز صاحبيه بأن يذهبا ليفتحا الباب فمرا بجاب أقطاي حتى صارا خلفه فمضى به قطز حتى وصل الدهليز ثم قال له أعطني سيفك فإنه لا يجب أن يدخل أحد رعيته على الملك ومعه سفيه, فقال أقطاي أتجردني من سيفي أيها المملوك الحقير ,فطعنه قطز بخنجره في جنبه وقال بل أجردك من حياتك وأطهر البلاد من فسادك وشرك.
فثار أقطاي وبدأ يضرب قطز بسيفه واضعا يده الأخرى على فم الطعنة, فسل قطز سيفه ليتقي ضربات أقطاي, ولما أراد الآخران ضرب أقطاي من الخلف منعهم قطز وقال دعوا المملوك الحقير يقتله وحده حتى لا يقول الناس قتله ثلاثة من مماليك المعز.
واستمر قطز يثب عليه ويتقي ضرباته منتظرا أن تخور قواه, وهو يقول يا ملعون اثبت لي, فيرد عليه قطز يا زوج الأميرة اثبت لنفسك, ثم خانته قدماه فسقط على الأرض ولم يستطع أن يقم وهو يضرب يمينا وشمالا وقطز أمامه ينظر إليه وهو يقول له ادن مني يا صديق بيبرس.
وكانت شجرة الدر واقفة تشاهد الأمر من مقصورتها فنادت عليه وقالت "يا مغرور دع بنت الملوك تنفعك" وأراد أن يرفع طرفة ليراها فوقع على ظهره وهو يقول يا خائنة ثم مات.
المعز يسلم رأس أقطاي لأصحابه :
استبطأ مماليك أقطاي صاحبهم أيقنوا أن أيبك قبض عليه, فأذاعوا الخبر بين أصحابهم حتى وصل إلى بيبرس ومن معه فعادوا مسرعين وركبوا في سبعمائة فارس إلى قلعة الجبل يطلبون تسليم زعيمهم, فرمى لهم المعز رأسه وقال "انجوا بأنفسكم قبل أن ينالكم ما نال صاحبكم"
فأيقنوا أن المعز لم يجرؤ على فعل ذلك غلا بعد أن استعد لهم جيدا فانتشر الخوف بينهم وخرجوا ليلا متفرقين فمنهم من ذهب للملك المغيث بالكرك, وآخرون إلى الملك الناصر بدمشق ومنهم بيبرس, ومنهم من أقام ببلاد الغور والبلقاء والقدر يقطع الطريق ويأكل بقائم سيفه, تعهد بيبرس من ذلك اليوم قائلا "لقد فعلها صديقي فيّ,والله ليكونن من قتلاي"



الفصل الثاني عشر
زواج قطز وجلنار ونهاية المعز وشجرة الدر
التخلص من بقايا أتباع أقطاي , وإعجاب الناس بقطز :
في اليوم التالي لقتل أقطاي قبض المعز على من تبقى من أتباعه من المماليك البحرية فقتل رؤسائهم ممن يخشى منهم وسجن البقية, فاستراح الناس من شرهم وفسادهم.
وظل الناس في المملكة المصرية يتذكرون حديث مقتل أقطاي بيد سيف الدين قطز وأعجبوا بشجاعته وبطولته وعظم شأنه في عيون الناس وأحبوه.
بم كافأ المعز وشجرة الدر المملوك الشجاع قطز ؟
مكافئة المعز لمملوكه الوفي :
عرف أيبك فضل مملوكه عليه وعلى ملكه, فزاد في تقريبه وترقيته حتى أعتقه وقلده أكبر منصب في الدولة وهو منصب نائب السلطنة, فازداد قطز إخلاصا ووفاء لأستاذه.
أما مكافأة شجرة الدر:
وكذلك لم تنس الملكة فضل المملوك الشجاع الذي خلصها من خطر أقطاي فبرت بوعدها وأنعمت عليه بجلنار وتولى عقد الزواج الشيخ العز بن عبد السلام, وتولت الملكة تزيين وصيفتها وإصلاحها بيدها , وزفتها بنفسها إلى نائب السلطة الأمين سيف الدين قطز.
حلم في الأرض ودعوة في السماء :
وهكذا جلس الملك المعز يستقبل الوفود المهنئة بزواج مملوكه ونائبه الوفي, وجلست شجرة الدر لتتلقى تهنئة وفود النساء بزواج وصيفتها الجميلة.
فقد أقيم العرس في قلعة الجبل, حتى إذا انتصف الليل انصرف المدعوين والمدعوات وسكت الغناء, ورفع الخدم موائد الطعام وأوى الجواري إلى مضاجعهن بين الفرح والحسرة
وخلا الحبيبان السعيدان فسالت دموع الفرح وتحدث القلب إلى القلب وذكرا مصائب الدنيا فغفراها مرة واحدة, ورقد اثنان الحب ثالثهما. تحوطهما رعاية الله ورضوانه.
وبذلك تحقق حلم في الأرض, وهو حلم الأمين (جيهان خاتون وعائشة خاتون ) اللتين غرقتا في نهر السند . فاطمأنت روحيهما بتحقق حلمهما بزواج قطز وجلنار, وكانتا إذا نظرتا إليهما يلعبان في حديقة القصر الملكي بغزنة تتمنيان أن تريا مثل هذا اليوم.
وأجيبت دعوة في السماء, انطلقت من فم ذلك الرجل الصالح, الشيخ العز بن عبد السلام.
ما الذي أثار الخوف في نفسي العروسين صباح العرس ؟
في صباح اليوم التالي هب العروسان مذعوران كأنهما يخشيان أن يكون ما مر بهما من فرح وزواج ما هو إلا ضرب من الأحلام, فلتمس كل منهما الآخر فإذا هما متجاوران فطابت نفسيهما.
تقلبات الدهر تهدم السعادة في قلعة الجبل :
عاش الزوجان حينا من الدهر في سعادة وفرح في أحد قصور قلعة الجبل, تحت سيدسهما السعيدين (الملك المعز وزوجته شجرة الدر) ولكن تقلبات الزمان أبت أن تترك قصرين سعيدين في قلعة تعاقب عليها أنواع الحزن والفرح, فقد انقلب ما بين أيبك وزوجه شجرة الدر وحلت الطمأنينة والبشاشة عن قصرهما.
انقلاب أيبك على شجرة الدر :
انتهي أيبك من خطر أقطاي وأتباعه واستقر له الأمر ودان له الجميع بالولاء والطاعة, فبدأ يشعر بنفوذ شجرة الدر الزائد عن الحد عليه وعلى سلطة, فرأى في نفوذها وتمسكها بما تقول أنه حقها إنقاصا لهيبته وملكه, فأمره دائما مردود إليها وأمرها لا رد له, ترفع من تشاء وتضع من تشاء, فأراد أن يوطد الأمر لابنه (على) ليكن خلفته على عرش مصر, وكان قد انقطع عن أمه زمنا فعاد إليها, فشعرت شجرة الدر بالغيرة من ضرتها والغيرة على سلطتها.
دافعت شجرة الدر عن حق نفسها وحق قلبها فكيف كان ذلك؟
بقد صمتت شجرة الدر أن تدافع عن حق نفسها في السلطة والنفوذ, وحق قلبها في زوجها وعدم التفريط فيه لزوجته القديمة, ورسمت لكل حق خطة تدافع بها عنه.
أما حق قلبها, فقد أمرت زوجها بالانقطاع عن زوجنه القديمة أم على, ولكي تتأكد من ذلك ألزمته بتطليقها.
وأما حق نفسها فكان في السلطة والملك وكان من السهل الحفاظ عليه, فقد جعلت تدني منها من لا يميل للملك المعز من المماليك الصالحية, وتقربهم وتوليهم المناصب, واتجهت إلى خواص رجاله ومماليكه فبدأت تبعدهم, وتنزع منهم المناصب ومقاليد الأمور واستمرت في ذلك حتى عظم نفوذها واستبدت بالأمر فأصبحت لا تطلع أيبك على أمر منها.
ما أثر دفاع شجرة الدر عن حقيها على الملك المعز ؟
لم تطب نفسه بما فعلت شجرة الدر من تقريب أعدائه وإبعاد خواصه,واستبدادها بالأمر, ولم تطب نفسه كذلك بما طلبته من تطليق زوجته وأم ولده علي, والذي كان يسعى من أجل توريثه الملك, فاشتد الخلاف بينهما والنفور حتى نزل عن قلعة الجبل خشية على نفسه من شجرة الدر وأصبح لا يزور قلعة الجبل إلا وضح النهار ليباشر شئون ملكه.
خطة واحدة لخلاص الزوجين من بعضهما :
ظلت الحرب بينهما من وراء الأستار حتى بدأ كل منهما يفكر في الطريقة التي يتخلص بها من خصمه, فاتفق لديهما وسيلة واحدة اتبعها عدوهما أقطاي من قبل وكان فيها هلاكه, فقد أراد كل منهما أن يرفع من قدره بالإصهار من ملك من ملوك البيت الأيوبي.
أما شجرة الدر فقد أرسلت أحد أمناء سرها إلى الملك الناصر صاحب دمشق بكتاب تعرض فيه أن يتزوجها على أن تملكه مصر وتقتل المعز, فخشي الناصر أن تكون مكيدة فلم يجبها.
أما الملك المعز فقد أرسل إلى صاحب حماة المنصور ابن الملك المظفر يخطب أخته عروس عدوه أقطاي فلم ترض بأن تخطب لقاتل خطيبها. فأرسل إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يخطب ابنته فوافق وكتب إليه يحذره من شجرة الدر ويعلمه بأنه كاتبت الملك الناصر.
الزوجان يعلمان بخطط بعضهما البعض :
علم الزوجان بأمر الخطة التي أعدها الآخر للخلاص منه, فازدادت الوحشة بينهما ولم يبق للوفاق والصلح إليهما سبيل, فاحتاطت شجرة الدر وأمرت وصيفتها جلنار بأن تنقطع عن خدمتها, فانتقلت مع زوجها قطز إلى قصر آخر خارج القلعة.
أثر الصراع الدائر على سيف الدين قطز :
أما سيف الدين قطز نائب السلطنة فقد حار في هذه المسألة فلكلا الزوجين فضل عليه وعلى زوجته, فظل زمنا يصرف أستاذه عن خطبة ابنة صاحب الموصل, ويوصيه بالتريث والحكمة, حتى ترضى شجرة الدر أو يظفر بها إذا لزم الأمر.
فكان أيبك يحتج بأنه تريد طلاق زوجته أم ولده وأنه لا يستطيع إجابتها في ذلك, ولا يستطيع أن يصبر على استبدادها بالأمر دونه وجهرها بعداوته, فلا يجد قطز إلا السكوت.
ولما علمك قطز من أمر شجرة الدر ومكاتبتها للملك الناصر قوي عنده عذر أستاذه, فشد أزره وساعده في الباطن ولكنه أبقى على ود السلطانة في الظاهر حفاظا لسابق جميلها عليه وعلى زوجته
اعتذار قاتل :
علمت شجرة الدر بأن أبيك قرر إنزالها من قلعة الجبل إلى دار الوزارة, فأرادت أن تسبق بالقضاء عليه قبل أن بفعل هو, فأرسلت إليه من يحلف له بأنها ما فعلت ما فعلت إلا لغيرتها عليه, وأنها نادمة على أفعالها ومشتاقة لمصالحته وتنازلت عن طلبها بتطليق أن ابنه على, وقد تبين لها أنها أسرفت في عتابه أكثر مما ينبغي, وكانت أوصت رسولها بألا يخاطبه في حضور نائب السلطنة قطز.
فرق المعز لاعتذارها وبكى, فقد كان يحبها ولم يستطع أن ينسى ذلك الحب, فعز عليه ألا يقبل اعتذارها لعد أن بعثت إليه تسترضيه, فقال لرسولها بأنه سيصالحها ويبيت عندها الليلة.
وعلم قطز بما جرى من أمر الرسالة فحذر أستاذه من كيد شجرة الدر وأكد أنها تنوي به شر, فلم يسمع له أيبك, ولما اشتد عليه قطز في النهي قال له أيبك "أرأيت لو نهيتك عن زوجتك أكنت تدعها لقولي؟" فعرض عليه أن يصحبه إلى القلعة, فقال أيبك "يا حبيبي لا تفعل كيف أصالحها وأسيء الظن بها ؟" فقال قطز في نفسه ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
مقتل المعز بيد الخدم في الحمام :
وبالفعل قضي أمر الله في المعز ليلا بيد جماعة من الخدم, وأشيع أن المعز مات فجأة في الليل, فانطلق مماليك المعز إلى القصر السلطاني وقبضوا على الخدم والحريم حتى أقروا بما جرى فقبضوا على شجرة الدر واعتقلوها في أحد أبراج القلعة.
نصب على ابن الملك المعز ملكا على البلاد ولقب بالملك المنصور وكان ابن خمس عشرة سنة, وأقيم قطز كما هو نائب السلطنة يدبر أمور الدولة للملك الصغير.
وكان أول ما فعله المنصور أن أمر بأن تحمل شجرة الدر إلى أمه التي أمرت جواريها فضربن شجرة الدر بالقباقيب حتى ماتت, ثم ألقيت من سور القلعة إلى الخندق, ثم ووريت التراب بعد أيام.






الفصل الثالث عشر
قطز يتولى الملك ويستعد لغزو التتار
بيبرس يحرض ملوك الشام على غزو مصر :
أولا في دمشق :
اتجه بيبرس وأصحابه الغاضبون إلى دمشق حيث الملك الناصر, فأكرمهم وخلع عليهم على قدر مراتبهم, ولما استقر المقام بهم حاولوا تحريضه على غزو مصر, فكان يماطلهم فلا يوافقهم ولا يرفض طلبهم, حتى تجدد الصلح الأول بينه وبين الملك المعز وكان منصوص فيه ألا يأوي أحد من المماليك البحرية, فغادروا دمشق:
ثانيا في الكرك :
غادر بيبرس ومن معه إلى الكرك حيث الملك المغيث, وحرضوه هو الآخر على غزو مصر وعرضوا عليه المساعدة, فتردد في بداية الأمر إلا أنه لما بلغه موت المعز تشجع على ذلك, وسير عسكره مع بيبرس في ستمائة فارس, فالتقى بهم قطز بجيش مصر في الصالحية فهزمهم وعادوا للكرك.
أثر الهزيمة على بيبرس :
شق على بيبرس أن يهزم في هذه المعركة بعد أن كان يحلم بالتقدم إلى مصر وأخذها من يد المعز والانتقام لرئيسه أقطاي وبخاصة من صديقه قطز, فلما عاد إلى الكرك وجد من الملك المغيث تغيرا بسبب الهزيمة لأن المغيث ظن بأن بيبرس غرر به وبجنده حتى هزم.
ثالثا في دمشق مرة أخرى :
لم يجد بيبرس إلا أن يعود للملك الناصر صاحب دمشق لعله يجد عنده من العزم على غزو مصر ما لم يجده عنده قبل موت المعز, فأرسل إليه يستحلفه ويستأمنه فأنه وحلف له فاتجه إليه بيبرس فعاد الناصر إلى بره وكرمه.
فظائع هولاكو ببلاد المسلمين :
في هذه الأثناء عاد خطر التتار من جديد فقد برز فيهم قائد جديد وهو هولاكو حفيد جنكيز خان, وقد
هجم على بلاد الإسلام بجيش كبير فدمروا الدولة الإسماعيلية ببلاد فارس, ثم دخلوا على بغداد فأبادوها عن آخرها وقتلوا الخليفة أشنع قتلة, ومضوا يسفكون الدماء ويهتكون الأعراض وينهبون الدور ويخربون الجوامع والمساجد, واتجهوا إلى مكتباتها بما فيها من خزائن العلم والكتب العظيمة فألقوها في نهر دجلة حتى جعلوا منها جسرا يعبون عليه بخيلهم, واستمرت مذبحة بغداد أربعين يوما ثم أمر هولاكو بإحصاء القتلى فيها فبلغوا مليوني نفس.
أثر الفاجعة على المسلمين :
لقد ابتلى الله بهذا الطوفان قلوب المسلمين ليعلم من يثبت على دينه فيخرج لجهادهم ليدافع عن شرف الإسلام, ممن يرتد على عقبيه خوفا على حياته أو ما تحته من ملك زائل.
فهاهم ملوك الشام تنافس كثير منهم في الحفاظ على حياته وملكه الزائل ولو على حساب شرف الإسلام والمسلمين, فأسرع بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يعاونهم المسلمين المجاهدين في (أربيل) وهاهو الملك الناصر صاحب دمشق حفيد قاهر الصليبيين صلاح الدين وسميه أرسل ابنه الملك العزيز بهدايا ثمينة إلى طاغية التتار يسأله المساعدة ليستولي على مصر, وليؤمنه على ملكه.
فلما استبطأ ردهم ويأس منه أرسل إلى سلطان مصر المنصور يستنجد به لصد غارات التتار, خصوصا أن هولاكو أرسل إليه يأمره بالخضوع إليه وتسليمه ما تحت يده من البلاد.
فلما استبطأ جواب المصريين عليه راسل التتار مرة أخرى يطب منهم المساعدة علة غزو مصر.
ما اثر هجمات التتار على بلاد المسلين في نفس قطز؟
لقد ثارت شجون نائب السلطنة المصرية قطز, حيث تذكر جهاد جده خوارزم شاه وخلاه جلال الدين, وتذكر كيف انتهى ملكهما على يد طاغيتهم الأكبر جنكيز خان, وأيقن أن دوره العظيم قد حان, وأن جبار السموات والأرض قد أعده ليهزم جبار الأرض, وأن رؤيا النبي بدأت تتحقق لينتقم حفيد خوارزم شاه من حفيد جنكيز خان.
أثر عودة التتار على الناس :
انتشر الخوف في نفوس الناس وبخاصة لكثرة اللاجئين إلى مصر من العراق وديار بكر ومشارف الشام, فقد أخذ هؤلاء الهاربين من جحيم التتار يقصون على الناس فظائعهم التي تخلع القلوب, فأيقن المصريون أن التتار قادمون لا محالة.
وشاع بين الناس أن التتار قوم لا يغلبون ولا يقاوم لهم جيش, ولا تقي منهم الحصون, حتى عزم فريق من المصريين على الفرار إلى الحجاز أو المغرب, فعرضوا ديارهم للبيع بأبخس الأثمان.
دور نائب السلطة في تهدءة الناس :
وجد قطز أن عليه دور عظيم في تسكين الناس وإفهامهم أن التتار بشر مثلهم بل إن الله أعزهم بالإسلام وجعلهم أقوى منهم به, فلا يبع الإنسان نفسه إلا لله تعالى.
شكوى قطز من المنصور وأمه :
كان قطز كثيرا ما يتردد على الشيخ ابن عبد السلام سرا فيستشيره في أمور كثيرة, فإذا سأله الشيخ عما أنجزه من استعدادات لقتال التتار, شكا إليه قطز ما يلقاه من مصاعب بسبب المنصور وأمه.
أما مصاعب المنصور فتتمثل في مكانته كملك آمر وناهي في البلاد, والتفاف أصدقاء السوء حوله فيفسدون ما بين قطز والمنصور, فيعترض على ما يجب القيام به في هذا الموقف, كما أن مفاسده قد كثرت وانشغل عن شئون الدولة باللعب ومناقرة الديكة.أما بالنسبة لأمه فقد تحكن في كثير من الأمور مما أدى لاضطراب الأمر وكراهية الناس لهما.
تشجيع الشيخ لقطز على الانفراد بالحكم :
فأخذ الشيخ يشجع قطز على عزل الملك الصغير والانفراد بالحكم بل جعله واجبا عليه, فليس في البلاد من هو أصلح منه للقيام بتوحيد المسلمين حتى يستعدوا لدفع غارات التتار عنهم.
صراع قطز مع نفسه :
بقد كان عزيزا على قطز المعزي أن يخلع ابن أستاذه وولي نعمته, فقد تردد طويلا وتمنى لو يستطيع القيام بمهامه مع بقاء المنصور, ولكنه وجد استحالة ذلك لما تحتاجه توحيد كلمة المسلمين من سرعة في اتخاذ القرارات, وعدم الخلاف بين المسلمين وبخاصة حكامهم.
وبين الوفاء لأستاذه الراحل والوفاء لدينه ومصر الباقيين, وجد أن الأول يعرض البلاد والإسلام للخطر, والثاني يحمي الإسلام والبلاد من شر التتار فقرر عزله.
وفي هذه الأثناء بعث الملك الناصر صاحب دمشق رسالته الأولى يستنجد بالمصريين لصد هجمات التتار بعد أن يأس من مساعدة التتار له على أخذ مصر, فجمع قطز العلماء والكبراء وأهل الحل والعقد ومعهم رسول الناصر وعقد مجلسا في قلعة الجبل, فذكر لهم التتار وما يفعلونه ووجوب دفع شرهم عن البلاد فشعر الجميع بضعف الملك الصغير وعم صلاحيته للحكم في ذلك الوقت العصيب, ورأى الجميع حاجة الدولة لقائد كبير حازم يستطيع أن يقوم بمهام هذا اليوم الكبير (يوم حرب التتار).
العز بن عبد السلام يجهر بضرورة خلع المنصور :
ولكن لم يجهر بذلك الأمر أحد من الحاضرين, إلا الشيخ ابن عبد السلام فإنه جهر بها واقترح بخلع المنصور وتولي قطز مكانه لصلاحيته وتقواه حتى تتفق كلمة المسلمين.
أثر اقتراح الشيخ على الحاضرين :
اندهش الحاضرون من شجاعة الشيخ وصراحته, حتى أشفق عليه أصحابه ومحبوه أن يصاب بسوء من الملك أو أمه, واضطرب المجلس وجهر الأمراء المعزية والصالحية برفض هذا الاقتراح, ورأوا في ذلك اعتداء على حق المنصور وكان أشدهم في الرفض (علم الدين سنجر الغتمي وسيف الدين بهادر) وكاد يحدث ما لا يحمد عقباه إلا أن قطز وأسرع بفض الاجتماع.
كيف انتهى الاجتماع ؟
انتهى الاجتماع بانشقاق الناس بين مؤيد لرأى الشيخ ومنحاز لقطز وهم سواد الناس, وبين رافض له ومنحاز للملك المنصور وأكثرهم الأمراء وأتباعهم.
ثم رتب قطز للشيخ رجالا أشداء لحراسته خوفا عليه من الأمراء أو المنصور وأمه, و أصبحوا يحرسونه أينما ذهب.
قطز سلطانا على مصر :
انتهز قطز فرصة خروج كبار الأمراء إلى الصيد في أحد الأيام فقبض على المنصور وأخيه (قاقان) وأمهما واعتقلهما في برج قلعة الجبل, وأعلن نفسه سلطانا على البلاد وجلس على سرير الملك وتلقب بالملك المظفر .
أثر عزل المنصور على الأمراء :
عاد الأمراء من الصيد فبلغهم ما فعل قطز فركبوا إلى قلعة الجبل, وأنكروا عليه وثوبه على الملك فاستقبلهم أحسن استقبال, وحدثهم باللين والرفق, واعتذر لهم بأنه اضطر لذلك بسبب حركة التتار السريعة من الشام إلى مصر وخوفه من الملك المناصر الذي يراسل التتار ليساعدوه على غزو مصر, ولا يستطيع أن يقف أمام هذه الصعاب ملك صغير مشغول عن الدنيا بمناقرة الديكة, بل لا بد أن يكون هناك ملك قوى قادر على ذلك, ثم قال لهم بأنه إذا ما انتهى خطر التتار فالأمر إليهم يقيموا على مصر من يشاءون, ثم خيرهم إن كان فيهم من يستطيع أن يقوم بهذه المهمة غيره فيتقدم إلى سرير الملك وسوف يحله محله, فلم يجدوا إلى النظر لبعضهم البعض والانصراف وقد اقتنعوا بحجته.
الناصر يستميل التتار مرة أخرى لغزو مصر :
وردت الأخبار بأن الناصر استبطأ رد مصر فأرسل للتتار مرة أخرى يطلب منه مساعدة لغزو مصر, فأرسل السلطان المظفر قطز إلى سفير الشام وقال له أما يستحي صاحبك أن يستنجد بنا على عدو الإسلام ثم يستنجد بهم علينا؟ إذا لم يكن عنده إسلام فليكن عنده مروءة"
فقال السفير الشامي لعله استبطأ ردكم فظنكم ضده, فرد السلطان والغيظ يكاد يتفجر من وجهه, حتى ولو كنا ضده فيما مضى أيرضى لنفسه أن يعين عدو الله علينا فيقضى على بلادنا بما بقي فيها من دين وإيمان؟ ثم أقسم بالله لإن لم ينتهي الناصر عن خيانته ليسيرن إليه قطز فيحاربه قبل التتار.
بيبرس يعود لصداقة قطز :
علم بيبرس بأن صديقه قطز قد وثب على الملك فرسل إيه من مستقره بغزة يعترف له بالسلطنة ويعظم من شأنه ويصف له معاناته في الغربة ويتوسل إليه بحق الصداقة القديمة بأن يقبل عذره وخدمته ويأذن له بالرجوع لمصر ليساعده في قتال التتار.
فما قرأ قطز الرسالة بكى وقال الحمد لله قد عاد إلي صديقي القديم. وكتب إليه جوابا رقيقا يطل منه العودة ويعده بالوعود الجميلة.
ولما قدم بيبرس وأصحابه من غزة واقتربوا من القاهرة خرج إليهم قطز وعانق بيبرس عناقا حارا وأحسن استقباله, وأنزله بدار الوزارة وأقطعه قصبة قليوب.
كيف حاول قطز أن ينزع حقد بيبرس من قلبه ؟
لم ينسى قطز ما كان من حقد بيبرس عليه بسبب قتله أقطاي,ولم ينس أيضا نزوات بيبرس وأطماعه فأخذ يقربه إليه ويستشيره في كثير من الأمور حتى يخرج من قلبه ذلك الغضب والحقد ليستخدمه ساعدا قويا في جهاد أعداء الله التتار.
لماذا أكرم قطز بيبرس على الرغم من علمه بحقد بيبرس عليه؟
فقد كان بيبرس يتصف بالقوة والشجاعة والبأس, وهي صفات تجعله سند قوي لقطز في جهاده التتار , كثيرا ما نصح أتباع قطز ملكهم بأن يقبض على بيبرس وأصحابه خشية انقضاضهم عليه وقت الخط ولكنه كان يقول لهم دعوني وصديقي, فليس لي أن أحرم المسلمين من قوته وشجاعته.
أتباع بيبرس يحرضونه على التآمر على قطز :
أظهر بيبرس الإخلاص لصديقه في بداية نزوله مصر, ولما كثر اجتماعه بأصحابه من المماليك الصالحية نسى جميل صديقه وإحسانه عليه, فقد عمل هؤلاء المماليك على إثارة الحقد القديم في نفس بيبرس وذكروه بأن قطز هو من قتل قائدهم, وزينوا له الانقلاب عليه, فقابل ذلك ما في نفس بيبرس ولكنه أمرهم بالكتمان حتى تحين اللحظة المناسبة للوثوب على الملك وحلوله محل قطز في الحكم.
ما أهم المصاعب التي واجهت السلطان الجديد ؟:
أنها مشكلة كل الملوك المجاهدين , وقع فيها خاله وجده من قبله, مشكلة المال اللازم لتكوين جيش قوي, وتجهيزه بالعدد والأسلحة والآلات الحربية والذخائر والأقوات والأرزاق الكافية لإعاشة الجيش وتكوينه, وزاد من صعوبة الأمر أن بيت مال المسلمين لم يمت فيا يكفي من مال للقيام بهذا الأمر العظيم.
محاولة قطز تدبير المال اللازم لتكوين الجيش :
فكر قطز في طريقة للتخلص من هذه المشكلة لفرض ضريبة على الأمة وأملاكها لجمع المال اللازم , فعقد مجلسا حضره العلماء والقضاة والأمراء والأعيان, وعلى رأسهم الشيخ بن عبد السلام, فاستفتى العلماء في جواز فرض ضريبة على أموال العامة لإنفاقها غلى العسكر.
فتوى ابن عبد السلام بمصادرة أموال الأمراء :
خاف العلماء من إصدار فتوى بالجواز فيغضب العامة, وخافوا إن هم منعوا الأخذ من أموالهم يغضب عليهم السلطان, فظلوا يتدافعون الفتوى حتى جهر ابن عبد السلام بفتواه التي لا تجيز الأخذ من أموال العامة وأملاكهم إلا بعد أخذ أموال الأمراء ومساواتهم بالعامة, فإذا أخذ أموال الأمراء جاز له الأخذ من أموال العامة, أما قبل هذا فلا يجوز.
ها من السهل أخذ أموال الأمراء ؟ وضح .
بالطبع لا فقد احتار الملك المظفر قطز في الأمر, فهو إن استطاع أن يأخذ من أموال العامة إلا أنه من الصعب اخذ أموال الأمراء دون حدوث شغب قد يؤدى إلى فتنة في البلاد.
فأسرع إلى الشيخ يشرح له صعوبة الأمر ولكن الشيخ أصر على فتواه وقال لا أرجع في فتوى لرأي ملك أو سلطان, وذكره بالعهد الذي أخذه قطز على نفسه بأن يقوم بالعدل ويعمل لمصلحة المسلمين, ولم يكتف الشيخ بذلك بل أغلظ في الحديث معه حتى أن الحاضرون ظنوا أنه سيقبض عليه لذلك.
فامتلأت عينا قطز بالدمع وقام إلى الشيخ وقبل رأسه وقال" بارك الله لنا ولمصر فيك, إن الإسلام ليفتخر بعالم مثلك لا يخاف في الحق لومة لائم"
رأى بيبرس في فتوى الشيخ :
استشار قطز بيبرس في فتوى الشيخ فكان له رأيان لكل منهما هدف وهما....
في بدابة الأمر رفض بيبرس الفتوى وقال للملك المظفر قطز إن الأمر خطير وخوفه بأن الأمراء سينقلبون عليه لا محالة ولن يطيعوه, وكان غرضه في ذلك أن ينقض قطز فتى الشيخ فيثور عليه الشيخ ويثير عليه العامة.
ولكنه تراجع عن رأيه الأول لما رأى قطز متمسك بفتوى العز بن عبد السلام وعرض أمواله ليكن أول من يتنازل عنها للسلطان, وكان هدفه في ذلك أن يثور عليه الأمراء فينقلبوا عليه ويولوا بيبرس مكانه.
وحتى يعد نفسه لهذا الانقلاب المحتمل من الأمراء على قطز, أسرع إليهم وحذرهم من أن السلطان سيجردهم من أموالهم وأملاكهم ويساويهم بالعامة, وأثار حقدهم على الملك بقوله إن في ذلك إخلالا بشرفهم وإسقاطا لحقوقهم, وكان هدفه من ذلك أن يظهر بمظهر المحافظ على حقوقهم فيعلوا شأنه بينهم فيولوه الحكم بدلا من قطز.
استعداد الأمراء لمواجهة الملك :
أخذ الأمراء يستعدون لهذا اليوم الذي يفاتحهم فيه السلطان بأمر أموالهم, وتشاوروا كثيرا فيما سوف يقولونه له, وكانوا على يقين بأنه سيستخدم معهم الشدة فتجهزوا لذلك بكل قوتهم وقرروا معارضته حتى لو انتهى الأمر بقتله.
السلطان يكشف مؤامرة بيبرس :
علم المظفر بما كان من بيبرس والأمراء, فأرسل إليه وخلا به ثم قال له اتق الله في دينك ووطنك, ليس هذا بالوقت الذي نفكر فيه في التنافس حول الحكم والسلطان, فأمامنا أخطار عظيمة يجب أن نوحد لها قوتها.

تهديد السلطان لبيبرس :
حاول بيبرس أن يتهرب من الأمر ولكن السلطان أسرع وقال لا تنكر هذا بالقول ولكن أنكره بالفعل, ثم هدده بأنه قادر على قتله لولا أنه يصعب عليه أن يحرم المسلمين من رجل قوي مثله, ويريد أن يكون له (بيبرس) البطولة والفضل في يوم يحتاج فيه لكل مسلم لصد الأعداء.
فشعر بيبرس بالغضب وقال بأنه لا يقبل هذا التهديد فله من القوة والأتباع ما يحميه منه, فقال قطز لو كان لك ما بين المنبع للمصب أتباع وأنصار لرجوت الله أن يكفيني شرك ومن معك ولو كنت وحدي, فهو حسبي وبه حولي وقوتي.
السلطان يبين لبيبرس فضله عليه :
ثم ذكره المظفر بأنه كان شريدا في البلاد فجاء إلى السلطان يستعطفه ويعتذر له فعطف عليه وقبل عذره, وقربه من مجلسه حتى لا يقطع أمرا دون استشارته, ثم سأله ما العيب في معاملتي لك ؟
فقال بيبرس ليس بك عيب إلا سوء ظنك بي, فرد عليه المظفر بأنك أنت سبب هذا الظن السيئ, فلو عاهدتني أن تساعدني وتكن معي على هؤلاء الأمراء فلسوف أعود كما كنت محسن الظن فيك.
فعاهده بيبرس على أمرين, الأول أن يقاتل معه الأعداء حتى يقتل أو يكن لهم النصر, والثاني ألا يتدخل بينه وبين الأمراء فلا يكن معهم عليه ولا معه عليهم. فقبل قطز ذلك منه وحلفه عليه فحلف بيبرس.
كيف قضى الملك المظفر ليلته ؟
لم ينم الملك هذه الليلة بل قضاها ساهرا مع وزيره (يعقوب بن الرفيع) يفكران في الطريقة التي يجبر بها الأمراء على التخلي عما لديهم من أموال وكنوز, وبعد مشاورات طويلة بينهما اتفقا على خطة قرر تنفيذها الملك إن لم يتنازلوا عن أموالهم طوعا.
مواجهة الأمراء :
كيف كان الأمراء وكيف أصبحوا ؟
لما دخل الملك عليهم المجلس الذي دعاهم له, عرض عليهم الأمر وكان مما قاله لهم أنه ذكرهم بأنهم جند الدولة جاءوا من شتى بقاع الأرض واشترتهم الدولة من أسواق الرقيق وكانوا لا يملكون شيئا, ثم اغتنوا بأموال الدولة وامتلأت قصورهم وخزائنهم بالموال والجواهر.
ما مظاهر الترف والبذخ في حياة الأمراء ؟
ثم ذكرهم بأن الأموال كثرت لديهم حتى جعل بعضهم إناء الاستنجاء الذي يوضع في الخلاء من الفضة, ورصع بعضهم حذاء زوجته بالجواهر.
لماذا سكت الناس على هذه الأفعال ؟
ذكرهم بأن الأمة لما سكتت عن ها الغنى الفاحش والترف كان بسبب قيام الأمراء بواجب الدفاع عن الدولة والأمة ضد الأعداء ويوفرون لها سبل الأمن والطمأنينة.
لماذا يجب على السلطان أخذ مال الأمراء ؟
لقد أصبح الأعداء على الأبواب يعرضون شرف الأمة ودينها ومالها للهلاك, ولذلك وجيب على الأمراء أن يساعدوا في حماية الدولة, ولما كان بيت المال لا يكفي ما فيه لتجهيز الجيش والقوة المناسبة لرد الأعداء وجب على السلطان الأخذ من أموال الأمة لتجهيز البلاد لملاقاة أعدائها, ولكن العلماء أفتوا بأنه لا يجوز الأخذ من أموال العامة قبل أخذ أموال الأمراء, فإن احتاجت الدولة إلى مال بعد أخذها من أموال الأمراء جاز للسلطان الأخذ من مال العامة.
ولذلك جمعهم السلطان من أجل تنفيذ حكم الشرع في الجميع السلطان والأمراء ثم في الأمة حتى ينصرنا الله على أعدائنا ويثبتنا على أعداءنا.
كيف واجه الأمراء السلطان ؟
كان الأمراء على علم بما ينويه السلطان لذلك قرروا أن يجعلوا بيبرس لسانهم أمامه, ولكنه رفض بحجة أن السلطان قوي الحجة والبرهان وأنه لا يستطيع مجاراته وطلب منهم أن يختاروا شخصا آخرا ليكن لسانهم أمام السلطان.
هل أموال الأمراء ملكهم ؟
حاول السلطان أن يفهمهم بأن الأموال التي سيأخذها هي ما يفيض عن حاجتهم مما أخذوه من مال الأمة, فلما اعترض لسانهم وسأله هل تعني بأن أموالنا ليست لنا؟ قال السلطان نعم هي ليست أموالكم, وسألهم من أين أتيتم بها؟ هل ورثتموها أم أنكم تاجرتهم وكسبتموها من التجارة.

المظفر بدأ بنفسه ويتعهد للأمراء بحماية أرواحهم وشرفهم :
ورد قطز على لسان الأمراء لما اتهمه بأنه يريد بأن يقتلهم جوعا ويخلو له العيش, بأنه يتعهد لهم بإعاشتهم وإعاشة أبنائهم وأهلهم بما يكفل شرفهم, وسيقتطع ذلك من بيت مال المسلمين, وأقسم بأنه لن يأخذ لنفسه وأهله إلا ما يكفيه ولن يزيد نصيبه عن نصيب أي فرد فيهم, ثم أعلن بأنه سيكون أول من يقدم ما بيده من مال وجواهر لبيت المال وأشار لصندوق قدمته زوجته جلنار فيه حليها وجواهرها.
تنصل بيبرس من الأمراء :
احتار لسان الأمراء فيما يقول بسبب قوة حجة السلطان وقال قد أوقعني بيبرس في هذه الورطة, ولما بحث عنه الأمراء لم يجدوه, فقالوا للسلطان أمهلنا حتى نتشاور في الأمر فقال لا أمهلكم أكثر من اليوم فلن تخرجوا من هنا إلا على شيء.
أين كان بيبرس في ذلك الوقت ؟
لقد سبقهم بيبرس إلى القلعة واتفق مع السلطان أن يقف خلف الباب الذي يدخل منه السلطان ليسمع ما يقولون, فلما قالوا نريد بيبرس نسمع رأيه قال السلطان لقد اتفق معي بيبرس على ما أردت وحلف لي على ذلك وهو موجود خلف هذا الباب يسمع حديثكم.
وقد ظن الأمراء أن بيبرس قد خانهم, فطلبوا دخوله إليهم فناداه السلطان فنظروا إليه نظرة غضب وقالوا بعتنا للسلطان يا بيبرس!, فقال لا والله ولكني عاهدت السلطان على أن أحارب التتار معه وعلى ألا أعنكم عليه ولا أعينه عليكم, وهذا العهد لا يربط غيري فأنتم أحرار معه .
امتناع الأمراء عن التنازل عن الأموال :
صاح الأمراء جميعا بأنهم لن يطيعوا السلطان ولن يتنازلوا عما معهم من أموال, وحاولوا القيام من المجلس فوجدوا الأبواب مغلقة عليهم فعادوا واستقروا في أماكنهم, فقال لهم السلطان أمهلكم ساعة حتى تراجعوا أنفسكم مرة أخرى وحدكم, ثم أخذ بيد بيبرس وانصرف من بابه الخاص.
مصادرة الأموال عنوة :
كان الملك المظفر مستعد لهذه المعارضة, فقد جهز فرقة من رجاله الأشداء الأمناء ووكلهم باقتحام بيوت الأمراء وكسر أبوابها وخزائنها وحمل ما فيها من ذهب وفضة وجواهر وتسليمها إلى بيت المال, وخصص كل مجموعة لبيت من بيوت الأمراء, ولما رأى إصرارهم على المعارضة أشار لرجاله فخرجوا ونفذوا عملهم.
ثم دخل قطز إلى الأمراء وقال انصرفوا لبيوتكم فقد نفذ أمر الله فيكم, ووجدوا أحد الأبواب قد فتح فخرجوا منه جميعا, ووجدوا خارجة الباب جماعة من رجال السلطان فقبضوا على رؤسائهم وتركوا الباقين.
هل اكتفى السلطان بما جمع من أموال الأمراء ؟
أحصى المال المجموع من بيوت الأمراء فلم يكفي لتقوية الجيش وتجهيزه, وعند ذلك أمر السلطان بإحصاء الأموال وأخذ زكاتها من أصحابها, وأخذ أجر شهرين على كل الأملاك والعقارات المستأجرة, وفرض دينار على رأس كل قادر في القطر المصري, فجمع في بيت المال نحو (ستمائة ألف دينار)
ماذا فعل المفر بالمال المجموع في بيت المال ؟
أمر الملك المظفر وزيره يعقوب بن عبد الرفيع وأتابكه أقطاي المستعرب, أن يسرعا في تقوية الجيش......
1- بالأسلحة والعدد والآلات الحربية.
2- وتكثير عدد جنده بالشباب الأقوياء من أهل مصر.
3- وأمرهما باستقدام العربيان والبدو وإعطائهم المال للمشاركة في الجيش.
4- وأمرهما بإنشاء المصانع الكبيرة لصناعة الأسلحة والمجانيق وغيرها من آلات الحرب.
5- وأمرهما بشراء الجياد العربية الأصيلة والبغال القوية والإبل الهجان.
ديوان الجهاد : (ما عمل ديوان الدعوة للجهاد الذي أنشأه السلطان ؟)
أوعز السلطان للشيخ العز بن عبد السلام بإنشاء ديوان للدعوة إلى الجهاد في سبيل الله, يضم إليه من يختارهم الشيخ من خطباء الجوامع والمساجد فيلقنهم ما يجب أن يخطبوا الناس به في المساجد, ليدعوهم للجهاد في سبيل الله, ويشرحوا لهم فظائع التتار في بغداد وغيرها من تخريب وتدمير, كما يعمل الديوان على إرسال الوعاظ إلى كل القرى المصرية يدعون أهلها للجهاد ويوقدون في قلوبهم نار الحماسة.

وضع الشيخ لخطباء المساجد شرطا هاما, فما هو ولماذا ؟
لقد اشترط الشيخ أن يكون الخطيب حافظا عن ظهر قلب سورتي (الأنفال والتوبة), ولا يجيز لأحد الخطبة إلا بعد حفظهما لما فيهما من آيات الجهاد والقتال وحث المؤمنين على الدفاع عن الدين والشهادة في سبيل الله.
ما أثر إنشاء ديوان الدعوة للجهاد على المصريين ؟
لقد أصبحت الجوامع والمساجد والأندية ومجالس القرى تمتلئ بالوعاظ والخطباء الذين يذكرون بآيات القتال من كتاب الله, حتى دبت روح الجهاد في نفوس الجميع وكاد جميع المصريين رجالا ونساء وأطفالا أن يحفظوا هذه الآيات عن ظهر قلب.
رسل التتار:
تقدم التتار نحو الشام والسلطان لا يضيع وقتا فيجهز جيشه ويستعد ليوم الفصل, حتى جاءه رسل التتار وهم بضعة عشر رجلا, منهم خمسة وهم كبرائهم يحسنون اللسان العربي وصبي مراهق, وكان فيهم جواسيس خبراء في الحصون والقلاع جاءوا ليعرفوا مداخل ومخارج المدينة واستحكاماتها وما فيها من نقاط ضعف وقوة.
استقبال السلطان لرسل هولاكو :
استقبلهم السلطان استقبالا حسنا وعين لهم من الحرس من يقوم بشئونهم ويسير معهم أينما أرادوا الذهاب, وأعجب الرسل من هذه الحرية الممنوحة لهم, إلا واحد من الخمسة الكبار فقد عزله السلطان وسجنه من أول يوم بأحد أبراج القلعة.
ولم يسأل عنه أصحابه لانشغالهم بعملهم في معرفة المدينة وما فيها من قلاع وحصون وأسوار وأبواب, حتى أذا حصلوا على ما أرادوا اعتقلهم السلطان في برج آخر من أبراج القلعة, أما الصبي التتري فقد كان يتسلل إلى القصور خلسة حتى عثر عليه عند الحريم قد أحاطت به الجواري يتعجبن من شكله وهو يخاطبهن بكلمات عربية مكسرة فأخذه الحرس للسلطان فأمر باعتقاله وحده.
قطز يستشير الأمراء في أمر الرسل :
جمع الملك المظفر الأمراء لاستشارتهم فيما يفعل مع هؤلاء الرسل فأشار معظمهم بأن يرسل معهم جوابا لطيفا لهولاكو يخطبون به ودهم ويتفقون معه على مال يؤدونه جزية إليه كل سنة حتى لا يهاجم بلادهم.
غضب الملك بشدة منهم وقال بصوت أجش إن الله قال في كتابه "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" وأنتم تريدون أن نعكس الآية لتصبح "حتى تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون" ثم قام إلى كبيرهم واختطف منه السيف وكسره على ركبته وألقاه في وجه صاحبة وهو يقول " السيف الذي يجبن حامله على القتال لخليق (جدير) أن يكسر هكذا ويلقى في وجه صاحبه"
السلطان يأمر بقتل رسل التتار :
أمر السلطان بإحضار الرسل فحضروا بين يديه فقال لرجاله افعلوا معهم ما أمرتكم به, فنادى المنادي في الناس بمرور رسل التتار بينهم فاجتمع الناس جميعا ليشاهدوهم, فأركبوهم على جمال وربطوهم بالحبال ووجوههم إلى أذيالها, ماعدا الرسول الذي عزل عنهم فقد ربط على محفة ليشاهد ما يفعل بأصحابه, ولم يربط الصبي التتري, فقد قرر السلطان أن يجعله في زمرة مماليكه.
خرج الموكب بالطبول من القلعة الناس حوله يصفقون ويمرحون حتى إذا وصلوا إلى سوق الخيول قتل الحرس واحد من رسل التتار, وعند باب زويلة قتل الثاني وعند باب النصر قتل الثالث والرابع قتل عند الريدانية, ثم أنزل الجميع وقتلوا دفعة واحدة وعلقت رؤوس الجمع على باب زويلة.
استعراض القوة أمام بسول التتار :
أمر السلطان فأقيم عصر ذلك اليوم استعراضا كبيرا للجيش المصري في ميدان الريدانية (العباسية الآن) حيث نصب للملك مجلس في مرتفع يحيط به الأمراء والعلماء والوزراء, ثم بدأ الاستعراض بمرور فرقق الفرسان فرقة بعد فرقة يتقدمها أميرها حاملا لواءه وجميعهم على أهبة الاستعداد, وكلما مرت فرقة أشار أميرها بالتحية فقام له المظفر ليرد تحيته, ثم مرت فرق المشاة وهم شاكوا أسلحتهم فملئوا الميدان ثم بعدهم فرق المجانيق المحمولة على عجلات يجرها البغال القوية ثم فرق الهجانة وعليهم العمامة الصفراء ثم مر كبار الأمراء فامتطوا خيولهم وتباروا سبعة أشواط في الميدان ثم قدموا على السلطان فصافحهم وأجازهم.
ثم نهض السلطان وركب جواده الأبيض بين حرسه ونزل يخترق الجماهير إلى قلعة الجبل والجميع يهتف له بدوام الملك وطول الحياة, فلما وصل إلى باب القلعة أمر بالصبي التتري والرسول الأخير, فقال للرسول التتري الأخير " أخبر مولاك اللعين بما شاهدته من بعض قوتنا وقل له إن رجال مصر ليسوا كمن شهدهم من الرجال قبلنا, وقل لمولاك إننا استبقينا هذا الصبي عندنا لنوليه عليكم عندما نكسركم ونمزقكم كل ممزق"
ثم أمر وزيره يعقوب فأعطى الرسول التتري جوابا مختوم لهولاكو وأمر جماعة من رجاله بحراسة الرسول وتوصيله إلى الحدود المصرية, وبذلك قطع المظفر كل سبل هؤلاء الأمراء المتخاذلون لمسالم هولاكو ووضعهم أمام الأمر الواقع.
الشام حصن مصر الأول :
كان المظفر قد انتهى من إعداد جيشه ولكنه على علم بتقاعس ملوك الشام وميلهم إلى الخضوع لهولاكو, فأراد أن يكون جبهة قوية من ملوك الشام لتكن الحصن الأول لمصر أمام حربها ضد التتار, فأرسل لكل ملك من ملوكها رسالة يفصل له عزمه الأكيد على قتال التتار وأنه جهز نفسه وبلاده لهذا المعركة.
وأكد لهم أنه مصمم على أن ينقذ بلاد الإسلام من رجسهم وفظائعهم وأنه يعتبر بلاد الشام حصن مصر الأمامي لذلك يريد أن يساعدهم على حفظها من السقوط في أيدي التتار وأنه لا يطمع في أي جزء مما في أيد ملوك الشام.
تهديد الملك المظفر لملوك الشام :
وقد هددهم جميعا بقوله إنه إن اعترف بأن الشام لملوكها إلا أنه لن يسمح لأحد منهم أن يستسلم للتتار, ولن يسمح لأحد أن يعاونهم على أخوانه المسلمين, وضرب لهم المثل بمن اشتعل دار جاره بالنار فعليه أن يسعى ليطفئها وليس لجاره أن يقول لا شأن لك بداري, وهو كذلك معهم لن يسمح لهم بالتخاذل أو الاستسلام بل سيعاقب كل من يساعد الأعداء على المسلمين بقتله, وتوريث بلاده لمن جاهد وحارب في سبيل الله.
ثم وجه لهم الدعوة للاحتماء بمصر, وقال إن لم يستطع أحدكم الوقوف في وجه العدو واضطر للنجاة بنفسه فعليه أن يلحق بديارنا وسيجد منا التكريم حتى يأتي يوم التحرك للقضاء على التتار فيقاتل مع إخوانه عدوهم.
ثم عاد وهدد بأن من تأخر لغير عذر قهري فأنه سيفقد بلاده وملكه عندما يتم إجلاء التتار عن الشام بسيوف المصريين, ولم يكتف بذلك بل سير جماعة من الشاميين المقيمين في مصر إلى بلادهم ليحدثوا الناس بما أعده الملك المظفر قطز لملاقاة أعداء الأمة.
ملوك الشام في مصر : (ما أثر كتب الملك المظفر قطز على ملوك الشام ؟)
اشتدت هجمات التتار على الشام فلحق كثير من أمراءها الذين لا يستطيعون مواجهة التتار وحدهم بالديار المصرية فأكرمهم السلطان وجعلهم في خاصته يستشيرهم في كبار الأمور ويشركهم معه في مصاعب الجهاد.
وقد جعل كل منهم قائدا لمن جاء معه من المماليك والجنود وضم إليهم عدد من الجنود المصريين ليكونوا تحت قيادته, وقد لحق آخرون بهولاكو فساعدوه على إخوانهم حتى أن فيهم من حارب المسلمين معه.
















الفصل الرابع عشر
معركة عين جالوت
كيف قضى السلطان أيام حكمه ؟
قضى الملك المظفر في الحكم عشرة أشهر لم يعرف للراحة طعما, فقد عمل فيها بكل جهده من أجل بناء الجيش والدولة وتجهيزهما للقاء التتار, فلم ينم إلا في هذه المدة إلا قليلا حتى استطاع خلال هذه الشهور القليلة أن يقوم لما لا يستطيعه الآخرون في سنوات, .
كيف استعد السلطان لملاقاة التتار ؟
لقد قام في هذه الشهور القليلة بجهود يعجز عنها الأقوياء الأشداء من الحكام ومنها..
1- توطيد أركان دولته ضد الفتن والمؤامرات.
2- والقضاء على عناصر الفوضى والضرب على أيدي الفاسدين.
3- معاملة الأمراء المماليك بالشدة حينا وباللين حينا آخر, من أج إقناعهم بالمساعدة في قتال التتار وعدم السماح لهم بنشر الفوضى والاضطراب أو الدعوة لمسالمة التتار.
4- عمل على تقوية الجيش المصري وجمع المؤن والذخائر حتى أصبح جيشا جديدا.
5- استطاع أن يثبت قلوب الناس ويحمسهم للقتال بلا خوف ولا تردد.
بم اختص الله السلطان قطز ؟ (كيف أعد الله الملك المظفر لهزيمة التتار؟)
ولقد اختص الله عز وجل السلطان المظفر قطز بصفات أهلته لقتال التتار والانتصار عليهم, من قوة البنية, ومتانة الأعصاب, وقوة العزيمة والإرادة, وصدق الإيمان والعقيدة القوية بالله, فقد هيأه الله تعالى بكل هذه الصفات لهزيمة التتار وطردهم من بلاد المسلمين.
وما أثر ذلك عليه ؟ وكيف أصبح الجيش المصري ؟
وقد كان أثر ذلك كبير على السلطان فقد استطاع في شهور قليلة أن يقوم بما يعجز غيره عن القيام به في سنوات طويلة, فقد صنع الجيش المصري صناعة جديدة ونشر في جنوده روح الفداء والاستماتة في الدفاع عن الإسلام, وأفاض عليه من شجاعته وحماسته فأصبح الجيش يشتعل حماسة ويحن لجهاد أعداء الله.

كيف استطاع السلطان أن ينزع الخوف من نفوس المصريين ؟
استطاع السلطان خلال فترة حكمه الصغيرة أن يثبت قلوب الناس وينزع منها الخوف والهلع الذي سببه فظائع التتار في البلاد الأخرى, واستطاع كذلك أن ينشر بينهم الثقة في قدرة مصر على هزيمة التتار كما فعلت من قبل مع الصليبيين.
ما دور السلطانة جلنار أثناء الاستعداد للمعركة ؟
لقد كان لزوجة السلطان دور عظيم في الاستعداد ليوم المعركة, فقد كانت تشد من أزر زوجها وتشجعه على الاستمرار في سبيل النصر, وتسهر معه تشاطره همومه وآلامه, وتسمع لشكواه من هؤلاء الأمراء المتخاذلين فتهون عليه الأمر, وكانت تهتم بتقديم الطعام والشارب له بنفسها فقد كانت انهماكه الشديد في الاستعدادات تنسيه طعامه وشاربه, كما كانت في كثير من الليالي تجبره على أخذ قسطا من الراحة حتى يستطيع أن يكمل عمله في اليوم التالي فتأخذ بيده إلى السرير.
لماذا قررت السلطانة أن تخرج مع زوجها لميدان القتال ؟
لقد كانت تخبره دائما بأنها ستخرج معه لميدان القتال, لترى مصرع التتار وهزيمتهم, فيشفي ذلك صدرها, فإذا قال بأنه يخشى عليها من سهامهم وهجماتهم, قالت لن أخشى على نفسي ما لا أخشاه عليك, وأنها ستكون وراء الجيش في مأمن من سهامهم وهجماتهم.
فإذا قال بأنه يخشى أن يصلوا إليها أثناء الكر والفر, قالت لا تنسى أنني ابنة السلطان جلال الدين ولن يصلوا إلي وجوادي معي ينجو بي منهم, ثم ذكرته بأيام الهند وكيف كانا يتباريان بجواديهما فيسبقها تارة وتسبقه أخرى.
تغيير خطط السلطان :
لما انتهى الشهر العاشر من حكم السلطان تكاملت جيوشه وأصبح جاهزا بحول الله وقوته لملاقاة التتار, فأراد أن ينتظر إلى أن ينتهي شهر رمضان الكريم حتى يتحرك بجيوشه,ولكن تحركات التتار كانت سريعة جدا حتى وصلوا بعد أيام قليلة من بداية الشهر إلى غزة وبلد الخليل, مما دفع السلطان لتغيير خطته فنادى في سائر القطر المصري بالخروج للجهاد في سبيل الله لنصرة دين رسول الله (r).
أثر نداء السلطان للجهاد على المصريين ؟
لقد كان لهذا النداء كبير الأثر على المصريين, ومن ذلك.....
1- انتشر في نفوس الناس شعور عجيب لم يعهدوه من قبل وكأنهم يعيشون عصر غزوات المصطفى (r) حين كان يدعوا أصحابه للجهاد فيلبوا جميعا دعوة الرسول (r) فيجاهدون المشركين يبغون إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة.
2- طغى هذا الشعور على جميع طبقات الشعب المصري حتى كف الفسقة عن ارتكاب معاصيهم وامتنع المدمنون عن شرب الخمر, وامتلأت ساحات المساجد بالمصلين ولم يكن للناس حديث إلا حديث الجهاد.
بم أمر السلطان قواده للتحرك بالجيش ؟
أمر السلطان الأمراء والقواد بدعوة الجند وتجهيزهم للتحرك إلى الصالحية, وأمرهم بضرب كل من يختبئ بالمقارع, ثم انطلق إلى الصالحية ينتظر هناك تكامل جيشه.
تخاذل الأمراء عن الخروج للجهاد :
تكاملت صفوف الجيش, فوجد السلطان أن معظم الأمراء يميلون للقعود والتخلف, فكلمهم في الخروج فأبى معظمهم الخروج واعتذروا له بأن الرأي الذي اجتمعوا عليه أن يبقوا هنالك حتى تأتيهم جموع التتار فيصدونها عن البلاد.
فغضب السلطان غضبا شديدا وقال بئس الرأي الضعيف رأيكم أما علمتم أنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا؟ ثم ذكرهم بأنهم عاشوا حياتهم في البلاد يأكلون أموال الناس ثم يوم القتال والدفاع عنهم يتخاذلون, ثم شبههم بالمنافقين على عهد رسول الله حيث قال الله تعالى فيهم }وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47){ ما الذي قرره السلطان ؟
ثم أقسم بالمسير لقتال التتار وقال من اختار منكم الجهاد فليصحبني ومن لم يشأ فليعد إلى بيته غير مأسوف عليه ومسئولية حريم المسلمين في رقاب المتأخرين.
ثم أمر الأمراء الذين ثبتوا على الجهاد معه بأن يعتزلوا هؤلاء الأمراء في جانب آخر وطلب منهم أن يبايعوه على جهاد التتار فبايعوه على ذلك حتى الموت, فلم يجد الباقون مفر من المبايعة فأخذوا يتسللون واحد بعد الآخر يبايعونه على الجهاد حتى لم يبق منهم أحد إلا بايع.

تقسيم الملك المظفر لمعسكر جيشه :
أمسى الليل على الصالحية تلك المدينة الكبيرة التي يتوسطها المخيم السلطاني والذخائر والمؤن على البغال تصل بلا انقطاع فيتلقاها المكلفون بها.
ثم أصدر السلطان أمره بأن ينال العسكر نصيبهم من النوم والراحة, وبدأ في ترتيب طوائف كبيرة من الحرس العسكري ليسهروا على بعد من حدود المعسكر وبخاصة في الجهة الأمامية من ناحية الشام حتى لا تأتي طلائع التتار فتبيد المعسكر بمن فيه.
وقام على المخيم السلطاني الحرس الملكي ومعظمه من رجال السلطان نفسه ومماليكه الذين يثق فيهم, أما مخيمات الأمراء المماليك فجعلها في الخط الأمامي من جهة الشام وجعل بينها وبين المخيم السلطاني مجازا (معبر) تحرسه فرقة قوية من الحرس الملكي ولا يسمح لأي شخص بالمرور فيه غير الأمراء.
كيف وضع السلطان خططه الحربية مع كبار الأمراء؟
"ما تشاور قوم قط إلا هدوا". كيف طبق ذلك السلطان قطز ؟
أمسى السلطان مع الأتابك أقطاي المستعرب ووزيره يعقوب بن عبد الرفيع, ومعهم بيبرس وأمراء وملوك الشام الذين رحلوا إلى مصر لقتال التتار, يضعون لخطط الهجوم على التتار فكان يعرض الرأي عليهم ثم يستمع لاعتراضاتهم عليه واقتراحاتهم بانتباه شديد, فيرد عليهم برفق ويوافق على بعض الاعتراضات والتعديلات, حتى إذا انتهى التشاور في كل مسألة استخلص الرأي الذي صم هو عليه, يشعرهم أثناء ذلك بأن الرأي رأيهم وليس رأيه وحده.
ولما انتهى التشاور ووضع الخطط, عرض على بيبرس والآخرين أن يأخذوا نصيبهم من الراحة, فشكروه وانطلق كل منهم إلى مخيمه, إلا أتابكه أقطاي المستعرب, فقد ظل مع السلطان.
حوار بين السلطان و الأتابك حول الأمراء المتخاذلين :
بدأ السلطان يشكوا للأتابك ما يجده من هؤلاء الأمراء المتخاذلين وبخاصة في تلك الأوقات العصيبة , فقد أصبحوا مغرمين بالخلاف والمكابرة, ونسوا ما في رقابهم من دفع التتار وأعداء الأمة عن الدولة.
حاول الأتابك أن يخفف عن السلطان ويقول بأنه قادر على أن يسوقهم كما فعل في كل مرة فهم دائما ما ينصاعوا له, وطلب منه أن يحتمل أفعالهم حتى تنتهي المحنة وقتال التتار .
ولكن السلطان كان قضى فاض منه الكيل ولم يعد يستطيع أن يتحمل منهم فإذا تحمل منهم ذلك في وقت السعة والسلم فلا يستطيعه وقت الحرب والضيق.
سؤال حول بيبرس :
أسرع السلطان وطلب من الأتابك أن يحدثه بكل صدق عن بيبرس, وهل ما زال يجتمع بالأمراء ويحرضهم عليه كما كان يفعل؟
فرد الأتابك بأنه لم يصل إليه شيء من يوم القلعة حيث عه السلطان على قتال التتار, فهو لم يحرضهم على السلطان ولم يحاول أن يصرفهم عن ذلك أيضا فإذا سمعهم يتحدثون بشيء من ذلك سكت ولم يشاركهم.
ما الذي يتعب ويقلق السلطان من موقف بيبرس ؟
الذي يتعب السلطان أن بيبرس اكتفى بأن يسكت عند سماعهم يتآمرون عليه, وكان يظن بأن بيبرس سيعود إليه ويخلص في الأمر ولا يترك الأمراء يتآمرون على العصيان وهو يعلم ويسكت.
وظن أيضا بأن وجود بيبرس بينهم هو ما يشجعهم أكثر على هذا التمرد والعصيان ولكهنه رضي بهذا السكوت من يوم القلعة.
ما الذي عرضه الأتابك على السلطان؟ولماذا رفض ؟
عرض الأتابك أن يقتل أكبر رأس في هذا المعسكر إن خشي السلطان انقلابه عليه في وقت الشدة, وكان قصد بهذا بيبرس أو غيره, ولكن السلطان رفض لأنه لا يريد أن يحرم المسلمين من بيبرس وشجاعته وقوته, ولأنه رأى من بيبرس صدق العزيمة على الخروج وقتال التتار, ظن بأنه سيقوم بأعمال بطولية في أثناء المعركة.
وبعد النقش أشار السلطان على الأتابك أن ينام قليلا, واضطجع السلطان على فراشه فنام نومة خفيفة, وفعل الأتابك مثله.
متى تحرك الجيش المصري ؟ وما أثر ذلك على الأمراء ؟
في الجزء الأخير من الليل استيقظ السلطان وأيقظ الأتابك أقطاي وأمره بأن يصدر الأوامر للعسكر بالتحرك, فهب المعسكر كله من نومه وأخذ الجميع في الاستعداد للتحرك.
وفي أثناء الاستعداد علم السلطان بتباطؤ الأمراء المماليك عن المسير, فلم يهتم بهم ول يقل لهم شيء بل قال أنا أذهب فألقى التتار بنفسي, فلما علم الأمراء بموقف السلطان أدركهم الخجل فركبوا معه على كره.
كيف دخل الجيش المصري غزة ؟
أمر السلطان بيبرس أن يتقدم بعسكره ليكون طليعة للجيش فيعرف له أخبار التتار ، فسار بيبرس بجنده سريعا حتى وصل غزة وبها طلائع التتار فاشتبك معهم وهزمهم، وتركوا له غزة ظناً منهم أن وراءه جيشاً عظيماً فدخلها ، ونزل فيها بجنوده ينتظر وصل السلطان, فجاء إليها السلطان وأقام فيها يوما يستريح بجيشه ويدبر الخطط للمواجهات القادمة.
وصول السلطانة إلى غزة لمشاهدة المعركة :
في أثناء استراحة الملك المظفر بغزة حضرت السلطانة جلنار راكبة على جوادها وهي بملابس الفرسان من الأمراء ويستر وجهها قناعا من الحرير الأسود لولاه ما فرقها أحد عن الفرسان, وجاء معها جاريتان حبشيتان على بغلتيهما ويسير حولها جماعة من العبيد السود يحرسونها ويقومون بخدمتها فأقيم لها مخيم خلف المخيم السلطاني سهل على السلطان التردد عليها.
السلطان يهدد الفرنج ليأمن شرهم ؟
خشي السلطان أن بغدر الفرنج بالمسلمين من خلفهم عند ملاقاة التتار فيقضي بذلك على الجيش, فرأى أن يقطع عليهم ذلك السبيل فسار بعسكره إليهم, وكان قد أرسل له رسلا يعلمونهم بمقدمه, فخرجوا إليه يستقبلونها بالهدايا والتحف, فقال بأنه لم يخرج لقتالهم, وإنما خرج لقتال التتار وحذرهم من التعرض لجيشه فخافوا منه وأظهروا الإخلاص والولاء له.
ما الذي عرضه الفرنج على الملك المظفر قطز؟ وبم رد عليهم ؟
بل عرضوا عليه مساعدته بجيوشهم, فشكرهم وقال بأن جيشه لا يحتاج معونة أحد, ثم استحلفهم ألا يكونوا عليه ولا معه, وهددهم وأسم بأنه لو تبعه فارس منهم أو رجل يريد أذى المسلمين فليرجعن إليهم فيحاربهم قبل التتار.
كيف حاول الفرنج الغدر بالمسلمين؟ ولماذا سالموهم بعد ذلك ؟
حاول الفرنج الغدر بالمسلمين فقد كاتبوا التتار يعرضون عليهم المساعدة وأنهم على أتم الاستعداد أن يهجموا على المسلمين من خلفهم عند القتال.
ولكنهم لما رأوا انهزام طلائع التتار وخروجهم من غزة خافوا أن ينقض عليهم السلطان بجيشه فيحاربونهم, فاتبعوا الود والولاء, كما أن السلطان لم يسلم بحلفهم له بالولاء, بل شرط عليهم أن يترك على حصون عكا حاميات من الجيش المسلم ليضمن بقائهم على عهدهم فوافقوا على ذلك مكرهين.
خطبة الملك المظفر في الجيش الإسلامي :
بعد أن خرج الملك المظفر من عكا عسكر بعيدا عنها, وجمع الأمراء والقواد ومقدمي العساكر, ووقف بينهم خطيبا على جواده, فحثهم على قتال الأعداء بلا خوف ولا شفقة وذكرهم بما نزل بالأمم السابقة من تدمير وقتل وسبي, وخوفهم من وقوع مثل ذلك لهم وبلادهم, ثم حثهم على إنقاذ بلاد الشام من أيدي التتار ونصرة الإسلام, وحذرهم أخيرا من عقوبة الله وغضبه إذا قصروا في جهادهم.
أثر الخطبة على جند السلطان :
ضج السامعون بالبكاء وتحالفوا على الصدق والاجتهاد في قتال الأعداء.
بيبرس يقود طلائع الجيش :
انتهت الخطبة فأمر السلطان بيبرس بأن بأخذ فرقته ويسير ليكن طليعة للجيش, فأطاعه بيبرس وانطلق بكتيبته حتى لقي طلائع التتار فكتب للسلطان يخبره بمكانهم عند عين جالوت, وفي أثناء ذلك كان يناوشهم فتارة يهجم وأخرى يحجم ولا يريد أن يشتبك معهم في معركة فاصلة حتى يأتي السلطان ببقية الجيش, وظل يناوشهم حتى اكتملت صفوف الجيش فنزلوا إلى الغور, وكذلك التتار لما رأوا جموع الجيش المصري لزموا مواقعهم حتى تكتمل جموعهم.
أناشيد الكفاح والحماسة :
منذ أن خرج الجيش من الصالحية إلى غزة ومن غزة إلى عكا ومن عكا إلى عين جالوت, وهم يرددون هذا النشيد الذي ألهب حماستهم....

نمضي إلى التتار بالأبيض البتار
والأسل الحرار نطلبهم بالثار
لله والمختار وشرف الديار
نطرحهم في النار وغضب الجبار
تمضي إلى التتار بالعسكر الجرار
كالأُسْد الضواري تعصف بالفجار
كالريح.. كالإعصار كالمائج الهدار
نغرقهم في النار وغضب الجبار

ليلة المعركة :
أمست ليلة الجمعة ولم يتبق من الشهر الكريم إلا خمسة أيام, والسلطان مخيم بعسكره في الغور وأمامهم معسكر التتار تتوارد إليه الجموع والفرق طوال الليل, وكلا الفريقين على يقين بأن الغد سيكون هو اليوم الفصل.
فيم قضى السلطان ليلة المعركة :
لم ينم السلطان بل قضى ليلته في ترتيب العسكر وتعيين مواقعه وإصدار الأوامر لقوادهم ومقدميهم, والتفكير في الخطط الهجومية, ولما غلبه النعاس من شدة التعب نام على مقعده ولم يضع جنبه على الأرض.
وكان في خلال ذلك يكثر من الذكر الله وتلاوة ما يحفظ من آيات الذكر الحكيم, ويتردد باستمرار على مخيم زوجته ليطمئن عليها.
رحل هولاكو إلى مسقط رأسه. فلماذا ؟
رحل هولاكو من حلب إلى مسقط رأسه بعد أخبار جاءته بموت ملك التتار منكو خان, وأناب عنه في قيادة الجيش قاده الكبير (كتبغا) وأمره بمواصلة الغزو غلى مصر, ولما وصل هولاكو إلى بلاد فارس جاءته الأخبار بخروج سلطان مصر بجيوش عظيمة لملاقاة جيشه فأقام في فارس ينتظر ما تنتهي إليه الأحداث.
منع الجيشين من القتال معظم اليوم مانع لكل منهما فما هو ؟
طلع الصبح والفريقان على رهبة وخوف لأنهما يعلمان أن هذه المعركة ستكون الفاصلة والتي تحدد مصير كل منهما في المنطقة.
وحبس كل منهما عن القتال حابس, إما التتار فقد انتظروا حتى يأتي قائدهم كتبغا أما المسلمون فقد انتظر بهم الملك المظفر قطز حتى تحين صلاة الجمعة فيحاربوا والخطباء على المنابر يدعون لهم بالنصر والتأييد.
متى وصل كتبغا ؟وكيف رتب الملك المظفر جيشه ؟
ووصل قائد التتار كتبغا قبل الزوال بساعة, وكان في أثناء ذلك الانتظار رتب قطز جيشه فجعل على ميمنته الأمير بهادر المعزي, وعلى ميسرته الأمير بيبرس, وهو على القلب وحوله جماعة من أبطاله ومماليكه وبينهم الصبي التتري.
ملك التتار الصغير :
كان الصبي التتري مع السلطان لا يكاد يفارقه, وقد اتخذه مملوكا له ووكل إليه من علمه فرائض الدين,وكان يجبه لذكائه وفطنته, وكان دوما يلقبه بملك التتار حتى أن رجال السلطان كانوا ينادونه بملك التتار, وكان الصبي كلما سمع ذلك يعتز وافتخر بذلك.
بداية معركة عين جالوت :
تقارب العسكر من بعضهما البعض فأخذت السهام تخترق صفوف المسلمين فتجرح وتقتل منهم, فلما اشتد ذلك على المسلمين أمر السلطان رجاله بالهجوم عليهم فاندفعوا إلى الأمام حتى تصافحت الصفوف الأمامية للجيشين, واشتدت القتال بين الفريقين وكل منهما يشجع فريقه وكان المسلمون في هذا الوقت منتصرين على أعدائهم.
ما الذي شرح صدر السلطان أثناء المعركة ؟
انشرح صدر السلطان قطز بما يرى من قتال المسلمين أعدائهم التتار بلا خوف ولا خشية بعد أن كانوا يخشونهم ويظنون أنهم قوم لا يغلبون من كثرة ما سمعوه عن شجاعتهم وتوحشهم.
وكان السلطان أثناء ذلك يشجع جيشه ويحضهم على القتال والتقدم.
خدعة الصبي التتري :
كان الصبي التتر يبين مماليك السلطان حوله وقريب منه فاستأذن أن يذهب للقتل فأذن له الصبي, فكان يخترق الصفوف ويقتل أربعة أو خمسة من فرسان التتار ويعود مسرعا إلى مكانه الأول, والسلطان يقول له "مرحى يا ملك التتار" وظل كذلك حتى أن المسلمون كانوا يوسعون له الطريق ليخترق صفوف التتار ويعود, وهم يصيحون "احمل يا ملك التتار مرحى يا ملك التتار".
ما حقيقة قتال الصبي التتري لقومه ؟
لقد كان في الحقيقة يخبرهم بموقع السلطان في القلب حتى يتبعه فرسانهم أثناء العودة فيسهل عليهم قتل السلطان.
موقف السلطنة جلنار من الصبي التتري :
كانت السلطانة تقف على تلة عالية تنظر إلى ما يدور في المعركة من قتال, وهمها الأول أن تحمي
زوجها من الخديعة والغدر, فلاحظت ذلك الصبي التتري يخترق الصفوف ويقتل من الفرسان ويعود دون أن يصاب بأذى فشكت في أفعاله وبدأت تراقبه عن كثب.
محاولة قتل السلطان :
هجم الصبي كعادته على صفوف التتار فقتل من قتل ثم اندفع السهم سريعا إلى جهة السلطان وخلفه خمسة من فرسان التتار, فوجئ السلطان واندهش حتى أن من حوله من هول المفاجئة اضطربوا ولكن السلطان تلقى ثلاثة من فرسان التتار فقتلهم.
فقام الصبي التتري برمي السلطان بسهم فأخطأه وأصاب فرسه فنزل السلطان من على جواده فأسرع الفارسان الآخران نحو السلطان وهو يفر منهم ويدافع عن نفسه, ثم هجم على احدهما فضرب قوائم فرسه فسقط وكاد الثاني أن يضرب السلطان ويقتله لولا أن ظهر فارس ملثم شغله عن ذلك فاختلفا الضربة فخرا صريعين, وكان الفارس قد أطار رأس الصبي قبل أن يقتل الفارس الأخير.
الفارس الملثم :
سقط الفارس على الأرض وهو يصيح في السلطان "صن نفسك يا سلطان المسلمين, ها قد سبقتك إلى الجنة"
ارتاب السلطان في صوت الفارس فأسرع ينظر إيه فإذا بها زوجته جلنار قد جادت بنفسها فداءا لزوجها ودينها, ففزع قطز وأسرع يحملها إلى المخيم وهو لا عي ما يفعل, وأرسل لبيبرس أن يأخذ مكانه على القلب.
فوجد أمامه الأتابك أقطاي على الباب فقال له لا تفزع هذه السلطانة جريحة أسرع بالطبيب والجاريتين, فأسرع أقطاي ليحضر الطبيب, فجعل قطز يقبل جبينها والدموع تسيل ن جبينه وهو يقول "وازوجتاه .... واحبيبتاه" فأحست به ورفت طرفها إليه وهي تقول بصوت ضعيف "لا تقل واحبيبتاه بل قل واإسلاماه" ولفظت أنفاسها الأخيرة على ذلك.
حضر الطبيب ومع الجاريتان فوجدها قد فارقت الحياة, فطبع السلطان قبلة أخيرة على جبينها وتركها للطبيب ليجهزها وامتطى جوادا وطار به إلى الميدان.
أين كان الحرس السلطاني أثناء محولة اغتياله ؟
لقد فوجئ فرسان الحرس السلطاني من خدعة الصبي حتى اضطربت صفوفهم ولكن عاد إليهم رشدهم أثناء قتل الفارس الملثم للفارس الأخير فقبضوا على الفارس الذي ضرب السلطان قوائم
فرسه وقتلوه وتكاثفوا حول السلطان فلم يدعوا أحد يقترب منه.
أثر مصر جلنار على الجيش الإسلامي :
شاع خبر مصرع السلطانة في المسلمين فطغى عليهم الأسف والحزن عليها,وعلموا مذلك بأن السلطان حملها إلى المخيم وترك مكانه للأمير بيبرس, فلما رأوه قادم إليهم صاحوا جميعا "الله أكبر" وتخيلوا السلطانة الصريعة وهي تحمي السلطان وتجود بنفسها, فشعروا بهوان أنفسهم عليهم فحملوا على التتار واستبسلوا في القتال.
أثر غياب السلطان على التتار :
علم التتار بأمر موت سلطانة المسلمين وغياب سلطانهم عن الميدان ففرحوا بذلك وظنوا أنه قتل فحملوا على المسلمين واستماتوا في الهجوم فاضطربت الميمنة وتراجعت حتى أصبح المسلمين صف مائلا مقدمه بيبرس وجنده ومؤخره بهادر وجنده, وانكشفت القلب وتعرض لضربات التتار الشديدة , وما زاد من الضغط على القلب علمهم بوجود السلطان فيه فحاولوا أن يخترقوه لقتله.
واإسلاماه :
عاد السلطان إلى الميدان مرة أخرى, فكشف عن رأسه وألقى بخوذته على الأرض وصاح "واإسلاماه" ثلاثا وتردد الصوت في الميدان فسمعه معظم العسكر ورددوه. وحمل بنفسه وبمن معه على التتار حتى انتعشت الميمنة مرة أخرى فتقدمت ببطء من كثافة جموع التتار الذين حاولوا أن يطوقوا المسلمين.
كيف كان يقاتل قائد التتار كتبغا :
أبصر السلطان فرأى أمامه كتبغا قائد التتار وقد حمل بسيفين معه على المسلمين وكلما عقر له جواد استبدل بجواد آخر وكان يترقب الفرصة ليشق لرجاله طريقا للوصول إلى السلطان .
دور بيبرس في المعركة :
تولى بيبرس ميسرة المسلمين, وكان يحض جنده على القتال والاستماتة فيه, ولا يدع لهم مجالا للتقهقر مهما اشتد الضغط عليهم, كأنه في ذلك يقيدهم بسلسلة طرفاها في يديه, فثبتوا في أماكنهم ثبات الجبال, وكثر القتلى من حولهم حتى كانوا يدوسونهم بخيولهم.
وكان كثرا ما يهجم بنفسه في مقدمة الصف فيقتل من أبطال العدو أكثرهم قوة ويعود إلى الخلف فيطوق جنده ويحثهم على القتال وكان لا يستقر في مكان فكان في كل مكان يتحرك بسرعة كأنه السهم.
كيف كان يقاتل بيبرس ؟ وكيف كان يختار قتلاه من التتار ؟
رغم السرعة والاندفاع الشديد الذي تميز به بيبرس أثناء القاتل إلا أنه كان شديد الحذر والحرص كأنه ينظر بألف عين لا تفوته فائتة في القتال, ولم يكن يقتل أعدائه إلا بعد تخير وترقب شديد فكان يختار من التتار الفرسان الأبطال المعلمين (لهم علامة تميزهم عن غيرهم) فيختار أشدهم على المسلمين فيفاجئه من حيث لا يدري فيقضي عليه وربما شقه وفرسه بضربة سيف واحدة, وكثيرا ما وكل أحد أبطاله لذلك فيقول له "اقتل هذا الفارس وخلاك ذم"
أثر شجاعة بيبرس على التتار؟
من جراء شجاعة بيبرس وقته في القتال استضعفوا الميمنة التي عليها الأمير بهادر, وتحاموا الميسرة التي عليها بيبرس, فأمروا ميمنتهم (التي أمام بيبرس) بالتأخر قليلا ودفعوا معظم قوتها إلى الغرب يريدون تطويق بيبرس ومن معه.
لم ينخدع بيبرس بهذا الأمر بل أسرع وأمر جنده بالانتشار إلى الغرب ليبطل عليهم حيلتهم, وجعل تقدمه إلى الأمام في حيطة وحذر وبطء حتى يرى ما تقوم به ميمنة المسلمين.
تطويق ميسرة التتار :
سمع بيبرس أثناء ذلك مقولة السلطان (واإسلاماه)فأدرك بفطنته وخبرته الحربية أن السلطان يريد تطويق ميسرة التتار التي أمام ميمنة المسلمين ورأى السلطان يندفع بشطر القلب إلى الأمام ويخترق صفوف التتار ليفصل ميسرتهم عن قلبهم. (كان قد أرسل للأمير بهادر على الميمنة يخبره بعزمه على تطويق ميسرة التتار فأمر بهادر رجاله بأن ينتشروا شرقا في اتجاه الشمال ليساعدوا السلطان وجند البرزخ على تطويق الميسرة)
وهنا وجد أن الفرصة سانحة ليقوم (بيبرس) بتطويق ميمنة التتار والقلب ويفصلهم عن الميسرة التي يحاصرها قطز, فأمر رجاله بالتقهقر قليلا للخلف ليندفع التتار للأمام ثم أمرهم بالانتشار للغرب ثم التقدم للأمام ليصبح شكل جند بيبرس على شكل الهلال, ثم أخذ يأمر رجاله بالضغط من الطرفين حتى يتم محاصرة الأعداء.

وبعد النجاح في قتل كتبغا
أمر السلطان ميمنته وجنود البرزخ (الشطر الذي اخترق به السلطان جيش التتار ليطوق ميمنتهم) بأن يكملوا تطويق ميسرة العدو ثم أمر بقية جنود القلب بأن يندفعوا إلى البرزخ ليساعدوا بيبرس وجنده على تطويق قلب وميمنة العدو, وبذلك استطاع المسلمون أن يطوقوا معظم جيش التتار في هاتين الدائرتين فمنعوهم من الفرار وقضوا عليهم حتى لم منهم فيهم أحد إلا من استطاع الفرار إلى التل .
عودة إلى السلطان وهو يسعى للنيل من كتبغا :
كان السلطان يقاتل باستماتة وهو مكشوف الرأس فأصبح كأنه قطعة من للهب يعلوها إعصار من الدخان الأسود, وكان كلما اعوج له سيف طلب سيفا آخر وكلما قتل بطل من أبطال الأعداء صاح "الله أكبر" يشفق عليه, وما عنده شك في أنه سيصاب عما قليل وقد ينال الشهادة.
أثر تهور السلطان على خواصه وحرسه :
رأى رجال السلطان وحرسه تهور السلطان وقلة حذره في القتال فعزم المخلصون الأبطال منهم على وقاية السلطان من أي سوء ولو بأنفسهم فكان لا يتقدم خطوة إلا ويتقدمون معه محيطين به في نصف دائرة, وعلى الرغم من اشتداد القتل فيهم إلا أنه لم يمنعهم ذلك من التقدم والاندفاع مع السلطان إلى حد التهور, ولا سبيل أثناء ذلك للاحتياط والحذر.
قتال السلطان راجلا :
أثناء ذلك أبصر قطز بسهم يصوب نحوه فشد عنان الفرس فرفع قوائمه فأصابه السهم في صدره فسقط ونزل من عليه السلطان وهو يمسح عرقه ويقول في سبيل الله أيها الرفيق العزيز.
واستمر السلطان في القتال راجلا وكلما أراد احد الفرسان النزول عن فرسه للسلطان رفض وقال "اثبت مكانك ما كنت لأمنع المسلمين من الانتفاع بك في هذا الوقت" وبقي يقاتل راجلا حتى جيء إليه بفرس من الجنائب (الاحتياطي) فامتطاه وشق بجزء كبير من الجيش بين قلب وميسرة العدو وأرسل للأمير بهادر يخبره بعزمه على تطويق ميسرة العدو, فأمر بهادر رجاله بالانتشار إلى الشرق في اتجاه شمالي (شرقا مع الاتجاه إلى الشمال لمساعدة جند السلطان في تطويق الميسرة)
وظل قطز يحث أصحابه على القتال وظل البرزخ بين ميسرة العدو وبين قلبه وميمنته يتسع بما يندفع إليه من صفوف المسلمين, والقتال على أشده في جانبي البرزخ وبخاصة ناجية القلب التي يظهر فيها كتبغا يقتل بسيفه بكل شدة وخواص رجاله يحمونه بأنفسهم من ضربات المسلمين فيسقطون أمامه صرعى.
كتبغا وقطز يسعيان لقتل بعضهما :
أثناء ذلك القتال أبصر كتبغا السلطان قطز وهو يتردد بين البرزخ (الجيش الذي فصل ميسرة التتار عن قلبهم وميمنتهم) والقلب فتقدم نحوه بأبطاله يريد اختراق البرزخ لقتله, فما رآه السلطان أسرع ليلقاه فأسرح وجال السلطان يريدون منعه من ذلك إشفاقا وخوفا عليه, وهو يقول لهم "دعوني له, ليس له قاتل غيري! أريد أن أقتله بيدي!"
أقوش الشمسي يد السلطان وقاتل كتبغا :
فشل رجال السلطان في سعيهم لإيقاف السلطان, وتعبوا من شدة القتال, فرأى أحدهم وكان من رجال السلطان وأبطاله يحارب بجانبه ويدعى (جمال الدين أقوش الشمسي) رأى فرجة يمكنه الوصول منه لكتبغا فأسرع إليه وهو يصيح "يا خوند أنا يدك لقد قتلت عدو الله بيدك"وضرب عاتقه فقطعها فضربه كتبغا بيده الأخرى فصرعه عن فرسه ولكن (أقوش) قبل أن يسقط زج سن رمحه في عنق كتبغا فخرج من حلقه وسقط معه قتيلا.
أثر مقتل كتبغا على المسلمون :
فكبر أقوش وهو مازال يمسك برمحه ورجال كتبغا يضربنه بالسيوف حتى قتلوه وكبر السلطان وكبر المسلمون في صوت واحد حتى أنزل الله الرعب في قلوب التتار, فاختلفت صفوفهم وأخذوا يتقهقرون.
أمر السلطان ميمنته وجنود البرزخ (الشطر الذي اخترق به السلطان جيش التتار ليطوق ميمنتهم) بأن يكملوا تطويق ميسرة العدو ثم أمر بقية جنود القلب بأن يندفعوا إلى البرزخ ليساعدوا بيبرس على وجنده على تطويق قلب وميمنة العدو, وبذلك استطاع المسلمون أن يطوقوا معظم جيش التتار في هاتين الدائرتين فمنعوهم من الفرار وقضوا عليهم حتى لم منهم فيهم أحد إلا من استطاع الفرار إلى التل.
معركة التل والانتهاء من خطر التتار :
احتمى من استطاع أن يفر من التتار في تل قريب وأخذوا يمطرون المسلمين بالسهام كأنها المطر, واشتد الأمر على المسلمين وكثر قتلاهم وهم يسعون لصعود التل والقضاء على التتار خصوصا أن سهام التتار تكاد لا تخطئ أهدافها, وقد استطاع المسلمون أن يصعدوا إلى التل ويسحقوا بقية التتار.
شكر الله على عظيم نعمه من نصر مبين :
انتهت المعركة وتهللت وجوه المسلمين فرحا بالنعمة الكبرى من الله ألا وهي النصر العظيم, وبما غنموا من أموال التتار التي نهبوها من شتى بقاع الأرض التي مروا بها, فكانت غنيمة عظيمة لم ير مثلها في حروب هذا العصر.
خر الملك المظفر قاهر التتار لله ساجدا شاكرا لما اصطفاه من نعمه وفضله بالنصر على جبابرة الأرض المتوحشين, ثم رفع رأسه والدموع تسيل على لحيته, وركب جواده وخطب في الجيش.
خطبة النصر :
وكان مما قاله للمسلمين :
"أيها المسلمون إن لساني ليعجز عن شكركم, والله وحده قادر على أن يجزيكم الجزاء الأوفى, لقد صدقتم الله الجهاد في سبيله فنصر قليلكم على كثير عدوكم, فقد قال تعالى" يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" وقال عز وجل " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين"
مم حذر السلطان جنوده :
وحذرهم من الزهو بما صنعوا من بطولات, وحثهم على شكر الله والخضوع لقوته وجلاله, ثم أخبرهم بأن دعوات أخوانهم على المنابر في الساعة التي حملوا فيها بصدق على العدو قد تكون أكثر شدة وأذى على أعدائهم المشركين, فقد جاءت في يوم عظيم (الجمعة) في شهر كريم (رمضان), ثم أخبرهم بأن الجهاد لم ينتهي بل بدأ, وحذرهم بأن الله ورسوله لن يرضيا عنهم إلا بطرد أعداء الله من الشام وسائر بلاد المسلمين.
دعوات للشهداء وترحكم على السلطانة:
ثم سألهم الترحم على شهدائهم الذين علم الله ما في قلوبهم من الإيمان والخير فاختارهم للشهادة والجنة, واختاركم للنصر والبقاء لتعودوا للجهاد في سبيله.ثم سألهم أن يترحموا على زوجته السلطانة جلنار التي دفعت حياتها ثمنا لفدائه وحمايته, فقد آثرت ما عند الله على ما عند عبده قطز.وهنا أدركته الرقة ولم يملك نفسه فبكى وعلا نحيبه, فبكى المسلمون وتعالت أصواته بالترحم عليها (يرحمها الله يرحمها الله).ثم ختم بقول الله تعالى "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون, فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون"
مع أطيب المنى
الفصل الخامس عشر
قطز يحاكم الخونة ويطارد التتار ويتوجه إلى دمشق
قاهر التتار يحاكم الخونة :
بدأ السلطان يحاكم الأسرى من المسلمين الذين حاربوا مع التتار ضد المسلمين, فحضروا بين يديه فردا فردا, وكان يسأل كل واحد منهم عن اسمه واسم أبيه وبلده وعمله وحله من الفقر والغنى, ثم يسأله عن التتار واعتقاده فيهم, وأسباب حربه معهم ضد المسلمين, فكان كل فرد يجيب بإجابات مختلفة فإذا رأى أن المسئول لا عذر له من جهل أو كره أو اضطرار أمر بقلته, وإلا بين له سوء عمله وأن عقابه القتل ولكنه عفا عنه لما يرى فيه من الخير ثم استتابه وضمه للجيش.
وكان بين هؤلاء الأسرى أحد ملوك بني أيوب انضم للتتار وقاتل معهم يوم الغور قتالا شديدا فأمر به السلطان فقتل بيده جزاء خيانته للإسلام وليكن عبرة لغيره من الملوك الذين يساعدون عدوهم على أمتهم.
رسائل الملك المظفر لأهل دمشق وابن الزعيم :
تحرك الملك بجيشه إلى طبرية ومن هناك أرسل رسالة لأهل دمشق يبشرهم بالفتح وكسر التتار ويعدهم بالوصول إليهم ونشر العدل, وأنه سيولي عليهم من يرضونه من ملوكهم وأمراءهم, ثم أمرهم بالقبض على أعوان التتار وأنصارهم من أهالي دمشق حتى يأتي فيرى رأيه فيهم.
وأرسل رسالة أخرى إلى سيده الأول ابن الزعيم الذي كان مختبئا في أحد ضواحي دمشق, وكانت الرسائل بينهما مستمرة منذ وصول قطز مصر وحتى جلوسه على سرير الملك, فقد كان يتتبع ابن الزعيم أخبار مملوكه قطز ويشجعه على تحقيق البشارة النبوية.
ولما جلس قطز على سرير الملك أرسل له رسالة يهنئه فيها وختمها بإمضائه "خادمكم المطيع ابن الزعيم" فبكى قطز لما قرأها وقال الحمد لله الذي ولى عبده قطز على عباده المؤمنين.
وكان ابن الزعيم أثناء ملك قطز يراسله باستمرار ويخبره بأحوال بلاد الشام وملوكها وأمراءها ومواقفهم من معاداة التتار أو مناصرتهم مما سهل على السلطان أن يعرف الخائن من المجاهد أثناء حملته على بلاد الشام لتطهيرها من التتار وأعوانهم.
يوم الفطر ودخول دمشق :
وصل الملك المظفر إلى دمشق آخر يوم من أيام الشهر الكريم, فخيم خارجها, فأسرع إليه ابن
الزعيم ففرح به السلطان فرحا شديدا وتعانقا طويلا حتى سالت الدموع من عينيهما, وعيد السلطان ومعه ابن الزعيم في ذلك الموضع, وذبح الذبائح وأطعم الفقراء والمساكين, وأشار السلطان على ابن الزعيم أن يكون إمامهم في صلاة العيد ففعل وتمنى الاثنان لو أن الشيخ ابن عبد السام موجود فيؤمهم في الصلاة.
دخل السلطان في هذا اليوم دمشق فاستقبله الناس بالفرح والطبول وأقاموا الزينات ونثروا في طرقه الورد والرياحين, حتى نزل بقلعتها.
السلطان يأمر بيبرس بمطاردة فلول التتار :
بمجرد أن وصل السلطان إلى دمشق أمر بيبرس بأن يخرج بجيش عظيم إلى فلول التتار في الشام فيجليهم عنها, فخرج بيبرس ونازل فلول التتار فقتل منهم خلقا عظيما, وانتصر على حاميتهم (بحمص) بعد أن قتل منهم وأسر الكثير, وهرب الباقون إلى الساحل فتصدى لهم عامة المسلمين فلم ينج منهم أحد.وكانت هذه الواقعة آخر أمر التتار ببلاد الشام فقد هربوا من حلب وبقية بلاد الشام بعدها وألقوا ما في أيديهم من مال وذخائر نجاة بأرواحهم.
غضب هولاكو :
غضب هولاكو غضبا شديدا لهزيمة جيشه ومقتل نائبه (كتبغا) فهو لم ينكسر له عسكر من قبل ولم يهدأ حتى قتل كل من لحق به من ملوك وأمراء الشام الذين هربوا إليه بعد الهزيمة, فتلهم وأموالهم ونسائهم, وبذلك لقوا جزاء خيانتهم على يد من ساعدوه على أهلهم المسلمين, ولم ينج منهم إلا واحد عشقته زوجة هولاكو فشفعت له عنده فتركه فعاش طليق امرأة كافرة, ورحل هولاكو بمن معه إلى بلاده.
مع أطيب المنى
الفصل السادس عشر
نهاية قاهر التتار
إلى متى حبس السلطان حزنه على السلطانة ؟ ولماذا ؟
لقد حبس السلطان أحزانه على زوجته الشهيدة منذ سمعه تقول "لا تقل: واحبيبتاه .... بل قل : واإسلاماه" فقد حبس دمعه ولوعته على فراقها بسبب خطر التتار في بلاد الشام, فلما انتهي أمرهم في موقعة حمص وهرب الباقي نجاة بأنفسهم وأكمل تدبير ملك الشام وجعلها في يد الملوك والأمراء الذين جاهدوا معه أو الذين حسنت توبتهم شعر بأنه قضى ما عليه من الصبر على مصيبته.
فقد حبس حزنه حتى لا يشغله حزنه عن إنهاء أمر بلاد الشام ويطهرها من خطر التتار وأعوانهم.
ما الذي أوجبه الله على السلطان ؟
لقد أوجب الله على السلطان أن يحارب التتار ويطهر بلاد الشام منهم, وأوجب عليه الصبر على مصيبته في السلطانة, فقضى أمر الله بصبره على مصيبته فلم ينشغل بها عن بلاده والقضاء على عدو الله , فلما انتهى أمرهم عاد لنفسه يتذكر حبيبته الشهيدة.
ما أثر ذكرى السلطانة على قاهر التتار ؟
انتهى ما كان يشغل السلطان عن التفكير في مصيبته, فرجع إلى نفسه فوجدها فقدت سلواه الوحيدة في الدنيا بفقد جلنار, فانفجر الحزن الحبيس في نفسه فلم يعد يقدر السلطان على مغالبته, وسالت دموعه حتى تقرحت جفونه وضاقت الدنيا في وجهه.
وأصبح يتذكر مصرع السلطانة وكيف حملها بين يديه, ويتذكر آخر كلماتها (واإسلاماه) التي صاح بها في المعركة فكانت مفتاح النصر, ثم تذكر أنها لن تعود معه إلى مصر ولن تشاركه فرحة الناس بالنصر العظيم, وتذكر أنه سيأوي إلى قلعة الجبل وحيدا لا أنيس له.
لماذا شعر السلطان بالعجز ؟
لقد أصبح تدبير الملك والحكم صعب على نفس السلطان, فلا يحصد منه إلا التعب والهم والتقلب بين الحاسدين, فأحس بعجزه عن منع الأمراء وردهم عن غرامهم بالحكم والسلطة, وشعر بأن البلاد ستعود إلى سيرتها الأولى من الخلاف والظلم والفساد والفوضى.
ما الذي أكد للسلطان أن البلاد ستعود إلى الخلاف والاضطراب ؟
لقد تذكر كيف أن هؤلاء الأمراء لم يخرجوا معه لقتال التتار إلا مجبرين بعد أن أجهد نفسه في إقناعهم واتخذ في سبيل ذلك الشدة مرة واللين مرة أخرى, حتى أن ما وجده من تخاذلهم كان كافيا ليهد أقوى العزائم وتثبيط أعلى الهمم.
ما الذي هون على السلطان متاعبه مع المماليك وغيرهم ؟
لم يكن للسلطان من يهون عليه هذه المتاعب إلا زوجته السلطانة التي كانت تشجعه وتحثه على الصبر وتمسح بيدها الرقيقة شكواه وتطرد عنه اليأس وتهون عليه المصاعب, وتشعل في نفسه الرغبة في الحياة والمجد, ولكن هذا الأمل انطوى تحت الثرى للأبد.
ما الذي كانت تمثله جلنار لزوجها وحبيبها قطز ؟
لقد كانت تمثل له بقية أهله الذين أهلكهم التتار وقرر أن ينتقم لهم وللإسلام من ذلك الطوفان الذي قضى على ممالك ودول وفرق بين الأحبة والأهل والأصحاب, ولكن لما انتقم لهؤلاء جميعا فقد ما بقي له من أهله, حتى هانت الدنيا في عينيه وتذكر أن الله لم يتم في هذه الدنيا شيء إلا وكتب عليه النقصان.
قاهر التتار ييئس من الحياة :
طغى الحزن العظيم على قلب قاهر التتار فضعفت قوته وكلت عزيمته وانكسر جناح همته ونشاطه وشعر بأن عقده انفرط ولم يعد قادر على تحمل الحياة, فتمنى لو أنه قضى ما بقي من عمره دفعة واحدة وأخذ الموت إلى حيث حبيبته جلنار.
المظفر يكره الحكم ويختار خليفته :
لقد أضاف قطز موقعة عين جالوت لأخواتها من الغزوات والمواقع الكبرى مثل بدر وأحد والقادسية واليرموك وحطين وفارسكور وغيرهن من المواقع التي صانت شرف الإسلام والمسلمين.
ولكنه كره الحكم وزهد في الحياة, فأراد أن ينزل عن الحكم ومتاعبه, فنظر حوله ليرى رجلا قويا يترك له الحكم فيسوق الجميع بعصاه تحت إمرته حتى لا يختلف الناس من بعده, فلم يجد غير صديقه القديم ونصيره في جهاد التتار بيبرس.
ما الذي يعيب بيبرس ؟
لم يعب بيبرس إلا المكر والخديعة وتكالبه على الحكم والرياسة , ولكن لم يكن في هؤلاء الأمراء الطامعين من يفوقه قدرة على الحكم, فقد كان أفضلهم وأحقهم بهذا المنصب, لما لديه من قدرة على ـن يسوق الجميع بعصاه, ويجبرهم على الاستقامة وحماية الإسلام وهيبته في صدور أعدائه, فقرر أن ينزل له عن الحكم ويتخلى له عن عرش مصر.
لماذا كتم قطز الأمر عن الجميع ؟
لقد رأى السلطان أن يكتم الخبر عن الجميع حتى يعود إلى مصر خوفا من عصيان أمراء المماليك له فيؤدي إلى اختلافهم وبخاصة المعزية الذين كانوا قد غضبوا لمساواته الأمراء الصالحية بهم في الإقطاعات التي أقطعها لهم في الشام, واعتقدوا أنه ظلمهم بل تحدثوا بينهم بضرورة مطالبة السلطان بحقهم, واللجوء للقوة إذا لزم الأمر, ولكنهم أجلوا الأمر خوفا من اجتماع الصالحية مع السلطان عليهم.
وعد السلطان بيبرس بنيابة حلب, فلماذا لم يفي بوعده ؟
سأل بيبرس السلطان نيابة حلب فوعده بذلك ولكنه لما قرر أن ينزل له عن الحكم كله ويوليه سلطانا على مصر لم يكن هناك حاجة للوفاء بوعده له وأعطى حلب لحد ملوك الشام .



ما أثر ذلك على بيبرس ؟
علم بيبرس بالأمر فازداد حقدا على السلطان وأيقن أن السلطان يحسده على بطولاته في قتال التتار ومطاردتهم حتى أخرجهم من الشام, فخشي أن ينافسه في الحكم ويؤيده الناس في ذلك , فأراد أن يبين له قدرته عليه وعلى رجاله بعد أن خضعت له الشام بملوكها.
ما الذي قوى هذا الظن في نفس بيبرس ؟
قوى هذا الظن في نفس بيبرس أمران :
الأمر الأول أنه لما اختار نيابة حلب اختارها لبعدها عن العاصمة فقد أراد حقا أن ينافس السلطان فيستقل بها ويضم بلاد الشام تحت لواءه حتى إذا تم له ذلك نافس السلطان على حكم مصر.
والأمر الثاني أنه لم ينس ما كان منه من تحريض الأمراء على السلطان عندما طلب منهم النزول عن أموالهم لبيت المال, فظن أن السلطان عفا عنه يومها لأنه يحتاجه لقتال التتار, فإذا انتهى قتال التتار عاقبه على ذلك حتى لا يفعلها مرة أخرى.
لماذا كتم السلطان ما نواه عن بيبرس ؟
لم يعلم بيبرس بما نوى السلطان من النزول عن الحكم له, وذلك أن السلطان كان يعلم أن بيبرس لن يقدر على كتمان الأمر وسوف يبوح به لأصحابه فينتشر الخبر ويقع الخلاف.
ما دور أصحاب بيبرس في إثارة أحقاده على السلطان ؟
اتفق ما ظنه بيبرس مع رأى أصحابه من المماليك الصالحية, فأوغروا صدره وقالوا لولاك ما استطاع أن يهزم التتار والآن يفرق الشام على الملوك والأمراء الذين لم يقاتلوا قتالك ولم يكن لهم مثل بطولتك, وإنما حرمك من نيابة حلب لإذلالك, وما أعطانا من إقطاعات في الشام هو لإسكاتنا فإذا قضى عليك استردها منا وأعطاها لأصحابه.


مناقشة بين السلطان وبيبرس :
ما الذي عابه بيبرس على السلطان ؟
ذهب بيبرس إلى السلطان غاضبا يعاتبه على عدم وفائه بوعده له, وإعطائه حلب لملك لم يفعل معشار ما فعله بيبرس من جهاد للتتار وطردهم من البلاد.
ما مخاوف قطز من بيبرس إذا أعطاه حلب ؟ (كيف كشف قطز نوايا بيبرس ؟)
رد عليه السلطان بأنه لا ينكر فضله ولكنه يعرف أطماعه وتهوره وحبه الشديد للسلطة فخاف أن يعطيه حلب فيستقل بها ويشق كلمة المسلمين.
ما أثر كشف السلطان نوايا بيبرس عليه ؟
ظهر الضيق والاضطراب على بيبرس لما كشف له السلطان عن نواياه, ولكنه أخفى هذا الاضطراب وحاول أن يصرف عنه ذلك, بقوله أنه سيحلف له بأغلظ الأيمان بأنه لن يستقل بها ولن ينتقض عليه.
ولكن السلطان رده وقال إن نفسك الأمارة بالسوء لن تعجز أن تجد سببا لنقض أيمانك الغليظة.
لماذا وعد السلطان بيبرس بحلب ؟
احتد بيبرس في الحديث وقال, إذا كنت لا تنوي أن تعطيني حلب فلماذا وعدتني بها؟ فرد عليه قطز
بأنه وعده بها لما رأى في ذلك مصلحة المسلمين ولكنه لما خشي على مصلحة المسلمين لم يف بوعده.



ما الذي عرضه بيبرس على السلطان؟ وما رد السلطان عليه؟
عرض بيبرس على السلطان أن يعطيه نيابة دمشق لأنها أقرب وبالتالي لن يستطيع أن يتقلب على السلطان, فتعجب السلطان من ذلك وقال إذا لم آمنك على مدينة في أطراف الشام أأمنك على عاصمتها؟
كشف بيبرس عن شدته وعصيانه فكيف كان ذلك ؟ وبم وصفه السلطان ؟
غضب بيبرس من السلطان وقال بأنك تريد أن تذلني وتهضمني حقي, فامض على ما أنت عليه, فضحك السلطان ضحكة خفيفة وقال انظر إلى نفسك لقد عصيتني وأنت أمامي فكيف أذا بعدت عني, إنك شرس الطباع سريع الغضب, ولعل في ذلك خير لك في مكان آخر.
ما هدف قطز من مناقشة بيبرس ؟
قال له إن هدفي من مناقشتك أن تعود لرشدك فلا تفل مصلحتك على مصلحة المسلمين, ولعلك تصبح يوما ما سلطانا على المسلمين فكيف تسوقهم أذا كان هواك غالبا على تقواك ؟
هل يسخر السلطان من بيبرس ؟
ظن بيبرس أن السلطان بحديثه هذا يسخر منه فقال أسألك بالله ياخوند ألا تجمع علي المنع والسخرية , فإني أحتما الأول ولا أحتمل الثاني, فرد عليه قطز بأنه لا يسخر منه, لأنه حقا جدير بحكم المسلمين ولكن يجب أن يدوس هواه بقدمه أولا.
لماذا منع السلطان بيبرس نيابة حلب ؟
أولا منعه حلب لما رآه من شدة تقلبه وعصيانه وتمرده وحبه للسلطة, فخاف أن يشق اجتماع المسلمين.
ثانيا أن السلطان كان حريصا على قرب بيبرس منه فيسترشد بآرائه, فقد كان موت السلطانة شديد عليه حتى أنه يخاف أن يقصر في حق الناس فيجبر وجوده نقص قطز .
الأمر الثالث وهو الأهم هو أن السلطان نوى أن يوليه الحكم فلا حاجة لولاية حلب أو دمشق أو غيرهما .
سكت بيبرس مليا ليرى ما يجيب السلطان وجعل ينظر في وجه السلطان لعله يتبين صدقه من كذبه, فلم يرى إلا الحزن والانكسار في وجه قطز, فقال ألا يكفي وزيرك يعقوب وأتابكك أقطاي وبقية أصحابك للقيام بهذا الأمر, فأجاب بأن لكل واحد منهم ما يقوم به ولا يوجد فيهم من يقوم بما تقوم به أنت.
كيف كاد السلطان أن يصرح بعزمه لبيبرس ؟
ظل بيبرس يدافع السلطان ويقول أي مدينة تأمن شري فيها, فقال له السلطان لعلها خير من مشق وحلب فقال بيبرس تقصد قصبة قليوب فقال السلطان لا بل خير منها إنها قبعة الجبل قلعة ال....., وهنا سطت السلطان فجأة كأنه أخطأ ولم يتم كلمته, ثم استأنف حديثه انصرف الآن يا بيبرس مطمئنا فليس لك عندي إلا الخير.
أصحاب بيبرس يثيرون أحقاده ويتهمون السلطان بتدبير مؤامرة لقتله.
لقي بيبرس جماعة من أصابه الذين كانوا في انتظاره, فقص عليهم ما كان بينه وبين السلطان حتى وصل إلى قول "السلطان إنها قلة الجبل", ففسروها على أن السلطان يدبر له مكيدة لقتله فيها كما قتل صاحبه أقطاي من قبل وأن سكوت السلطان بعدها أكبر دليل على ذلك فقد ندم على تصريحه بذلك له.
نهاية قاهر التتار
بيبرس يخطط من أصحابه خطة لقتل السلطان ؟
اشتد غضب بيبرس وأسم أن يلحق السلطان بزوجته التي يبكيها قبل أن يصل إلى قلعة الجبل, وأراد المشورة من أصحابه ولكنهم سكتوا جميعا وجعلوا ينظرون إليه, ولما سألهم عن سكوتهم قالوا إنك سريع الغضب والتقلب ونخشى أن نشترك معك في هذا الأمر الخطير ثم تنقلب علينا وتتركنا للسلطان.
فذكرهم بيبرس بقسمه بأنه سيقتل السلطان ولكنهم ذكروه هم أيضا بأنه حلف بقتله يوم أن قتل أقطاي ثم عاد إليه يطلب الأمان فأعطاه قليوب, ثم أظهروا خوفهم من انقلابه عليهم هذه المرة فيعطيه قلعة الجبل.
صاح بهم بيبرس بالسكوت فسكتوا جميعا ثم بدءوا يتشاورون فيمن يصلح لمساعدتهم, فسألهم عن المعزية فقالوا أنهم لن يثوروا علينا لغضبهم عليه لمساواتنا بهم في الإقطاعيات, ثم أظهروا عدم الخوف منهم لأنهم أقوى منهم ولأنهم إذا قطعوا رأسهم (السلطان) فمن السهل القضاء على شرهم.
اقترح بيبرس أن يستميل أقطاي المستعرب ليكن معهم ولكنهم اختلفوا في ذلك فمنهم من رأى في ذلك تسهيلا لغرضهم لأنه صالحي مثلهم, ومنهم من أشار بضرورة إخفاء الأمر عنه لأنه وإن كان صالحيا إلا أنه مخلص للسلطان فإذا رآنا قتلناه عاد إلينا لا محالة.
مكان الجريمة وزمانها :
تشاوروا في كل تفاصيل الجريمة حتى مكانها وزمانها, واتفقوا آخر الأمر أن يترصدوا السلطان في طريقه فإذا حانت فرصة لتنفيذ خطتهم نفذوها, وقد قرروا أن يشاركوا اثنين من المماليك المعزية ليسهل عليهم إرضاء المعزية حينما يرون أن الصالحية لم ينفردوا وحدهم بالأمر
واختاروا لذلك (الأمير سيف الدين بهادر والأمير بدر الدين بكتوت الجوكندار) واختاروا هذين الاثنين لشدة حقدهما على السلطان.
رد المظالم لأهل دمشق والشام والعودة إلى مصر :
قضى السلطان في دمشق عدة أيام رد فيها الأموال التي صادرها التتار وأعوانهم إلى أصحابها, فأعاد لسيده ابن الزعيم أمواله التي صادرها التتار والأموال التي صادرها الصالح إسماعيل من قبل, وأحسن إلى صديقه الحاج على الفراش وكرمه وخلع عليه وسأل عن موسى ابن سيده الشيخ غانم المقدسي فعلم أنه بدد ثروة أبيه كلها وأصبح فقيرا فأمر نائبه على دمشق فأجرى له راتبا شهريا من بيت المال, وسأل عن أم موسى فعلم أنها ماتت فذهب إلى قبرها فزارها وترحم عليها.

هدوء يسبق عاصفة الخيانة :
خرج الملك المظفر من دمشق وودع مولاه ابن الزعيم وداعا حارا وسار بعسكره وأمرائه من المعزية والصالحية, وكان بيبرس معه لا يفارقه طوال الطريق يحدثه ويسليه ويظهر له الرضا التام ولم يذكر له حلب أو غيرها, فإذا ذكر له السلطان ذلك رد بيبرس لقد اخترت لي الخير يا خوند ولا أعدل بالإقامة في مصر بديلا.
هواية قاتلة :
سار السلطان بعسكرة حتى خرج من (الغرابي) وقارب (الصالحية) فسبقه أتابكه أقطاي المستعرب
معظم الأمراء وكثير من العسكر إليها ليجهزوا له الدهليز السلطاني, فرأى في طريقه أرنبا بريا فلم يملك نفسه وانحرف عن الطريق في أثر الأرنب وقد خيل إليه أن جلنار تجري معه على جوادها كما كانا يفعلان في ربوع الهند, واستمر في عدوه وراء الأرنب حتى بعد عن الجيش فوجد خلفه بيبرس والأمراء الستة.
ولما سألهم هل تحبون أنتم أيضا صيد الأرانب رد عليه قطز أنه يعلم أنه لا يحجب صيد الأرانب ولكنه رآه أبعد في البرية فتبعه خشية حدوث شيء له.
ولما أراد العودة أسرع بيبرس وحدثه أسيرة تترية رآها فأعجبته وطلب من السلطان أن يعطيها إياه, فأجابه السلطان بأنه يعلم بأنه مغرم بصنوف النساء وأذن له أن يأخذها.
فشكره بيبرس ونرجل عن فرسه فمد يده ليقبل يد السلطان فما مد إليه السلطان يده قبض عليها بيبرس حيث كانت تلك إشارة البدء في تنفيذ الجريمة.
كيف قتل السلطان قاهر التتار ؟
قبض بيبرس على يده وكانت الإشارة بينه وبين الأمراء فحمل أحدهم على السلطان وضرب عاتقه بسيفه, وتعلق ثاني بالسلطان فألقاه على الأرض, ورماه ثالث بسهم في صدره, كل هذا والسلطان لا يبدي أي مقاومة وإنما كان يقول "حسبي الله.... أتقتلني يا صديقي (بيبرس) وأنا أريد أن أوليك سلطانا مكاني؟"
ما أثر قول السلطان على بيبرس؟
أسرع فأمر الأمراء بألا يجهزوا عليه فقد أراد أن يستوضح مقال السلطان, فاعترضوا وقالوا بأنه يخدعهم حتى يأتي جنده فقال لهم لا تجهزوا عليه وليأتوا فإنه لن ينجوا مما به.
وصول الفرسان ووصية السلطان :
لم يمض وقتا إلا وقد أحاط فرسان السلطان وبعض خواصه بالأمراء السبعة وكانوا قد ارتابوا في سير الأمراء خلف السلطان فتبعوهم, وقالوا ألقوا سلاحكم أو قتلناكم, فلما تهيأ بيبرس والأمراء للدفاع عن أنفسهم هاجمهم الحرس السلطاني وحملوا على بيبرس يردون قتله.
أفاق السلطان من الإغماء ونظر إلى المشهد فرأى ما يدور من فصاح بصوت متقطع دعوا بيبرس لا تقتلوه إنه سلطانكم , قد وليته عليكم فأطيعوه !
قال الفرسان لن نتركهم فقد قتلوك يا خوند, فقال السلطان "ما قتلني غير سلطانكم (بيبرس) وقد سامحته فاسمعوا له وأطيعوا وقولوا للأتابك يسمع له ويطيع"
ندم بيبرس وثورته على الأمراء :
اندهش الحضور من وصية السلطان, ولكنهم نفذوها حتى أن بيبرس ألقى سيفه وهوى على السلطان يقبل رأسه ويديه ويقول "اذبحني يا خوند! ويل لي قتلت سلطان المسلمين قتلت هازم التتار! قتلت صديقي الكريم ! "
أسرع مماليك السلطان إليه فأسندوه على ظهره وجعلوا يمسحون الدماء عنه بمناديلهم وثيابهم, وهو يردد الشهادتين, فأسرع بيبرس إلى سيفه وثار على الأمراء الذين زينوا له عمله, وهو يصيح ويل لكم يا خونة يا مجرمون! فتحاشاه الأمراء وتقهقروا للخلف بعيدا عنه.
فصاح به السلطان بجهد مشقة " بيبرس, بيبرس دعهم يا بيبرس فإني قد عفوت عنك وعنهم, وأنتم في حل جميعا, شكرا لكم قربتموني من زوجتي ... (جلنار) ... ثم نادى على بيبرس وقربه منه وسأله "أتستحل دمي يا بيبرس ؟"
فأجاب بيبرس والدمع في عينيه لا يا خوند وإنما خشيت أن تقتلني اتقيت ذلك, فحمد قطز الله على ذلك لأنه لم يستحل دمه, وإنما غلبه الظن الكاذب, ثم وصاه بأن يقاتل التتار وأعداء الإسلام ثم دعا الله بأن يغفر له خطيئته!
وصف السلطان بصره إلى السماء وتنهد من أعماق قلبه وقال "واحبيبتاه ... وا إسلاماه" ثم خفق رأسه ولفظ أنفاسه الأخيرة فحمله مماليكه إلى حيث دفنوه باكين عليه.
استقبال الأتابك أقطاي المستعرب للأمراء :
وصل بيبرس إلى الدهليز السلطاني بالصالحية ومعه الأمراء الستة ورجال السلطان فتلاقهم الأتابك أقطاي المستعرب, فقص عليه رجال السلطان ما كان من قتلهم للسلطان ووصيته لبيبرس بالسلطنة.
ما أثر غدر الأمراء ووصية السلطان على الأتابك أقطاي ؟
تعجب الأتابك بشدة من وصية السلطان خصوصا أن السلطان لم يخبره عنها شيء ولم يعرض له عنها ولولا أن خواص رجال السلطان هم من أخبره بذلك لما صدق ما قيل .
وقد عظم عليه أن يغدر هؤلاء الأمراء بالسلطان في أوج انتصاره وساعة عودته إلى بلاه منتصرا
وغضب أشد الغضب من بيبرس لأنه اشترك معهم في قتل من أراد أن يوليه الملك مكانه.
الأتابك ينفذ وصية السلطان :
لو أراد الأتابك أن يقتل الأمراء بمن فيهم بيبرس لاستطاع فقد أحاط الأمراء المعزية وخواص السلطان ومماليكه بالدهليز ينتظرون ما تنتهي به الأحداث بين الأتابك والأمراء السبعة, ولو فعل ذلك لعظم أمره عند المماليك المعزية وولوه سلطانا على البلاد.
ولكنه فضل أن ينفذ وصية السلطان والطاعة لبيبرس, ولكن بعد أن يبين له سوء عمله, ويذكره بأنه سيجلس على أريكة صديقه الذي أراد له الخير فكان جزاؤه القتل .
توبيخ الأتابك أقطاي لبيبرس :
قال الأتابك للأمراء السبعة " رحم الله مولانا السلطان!... من قتله فيكم ؟
فسكت الجميع وأصبحوا يخشون الأتابك أقطاي بعد أن كانوا يخشون بيبرس,وظنوا أنه سيقتلهم, ولكن بيبرس أجاب بصوت جهير يخالطه الحزن "أنا قتلته" فنظر إليه الأتابك نظرة دامعة عاتبة وقال له "فاجلس مكانه على الأريكة يا خوند!"
ففهم بيبرس ما يرده الأتابك من تبكيته فلم يقل شيء ومشى متثاقلا إلى سرير الملك فجلس ثم قال للحضور يرحم الله صديقي المظفر, هلموا نفذوا وصيته واحلفوا لسلطانكم الجديد الملك القاهر, فتقدم الأتابك مد يده فصافحه وحلف له وتبعه الأمراء الستة وحلفوا له ثم تتابع عليه الأمراء ثم بقية العسكر.
دخول الملك الظاهر القاهرة :
دخل الملك القاهر القاهرة وكانت قد زينت لاستقبال قاهر التتار الملك المظفر فبقيت كما هي وسار موكب الملك القاهر ولكنه لم يشأ أن ينزل قلعة الجبل وظل أياما حتى قيل له أن ملكك لا يكتمل حتى تنزل فيها فنزل فيها ثم أشاروا عليه أن يغير القاهر لأنه شؤم فعدله إلى الملك الظاهر.
حزن الناس على قاهر التتار ومجدد شباب الإسلام :
سمع الناس بموت ملكهم العظيم فحزنوا عليه حزنا شديدا وبكوه بقلوبهم قبل أعينهم ولكنهم بعد فترة قصيرة كتموا ذلك خوفا من السلطان الجديد فبقيت قلوبهم تبكيه وحدها.
أثر موت مجدد شباب الإسلام على الشيخ ابن عبد السلام :
لما علم الشيخ بما حدث لتلميذه قطز بكى وانتحب عليه وكان مما قاله فيه"رحم الله شبابه, لو عمر طويلا لجدد شباب الإسلام" ثم قال "ما ولي المسلمين لعد عمر بن عبد العزيز أحد أعدل يعادله صلاحا ولا عدلا" .
بيبرس يجتهد في إرضاء الناس :
اجتهد بيبرس في الحصول على رضا الناس فأبطل ما فرضه عليهم قطز لبيت المال, ولكنهم لم يرضوا فقد قالوا أبطل ما علينا لبيت المال ولم يبطل ما علينا لنفسه وأمرائه ومماليكه.
بيبرس يعمل بوصية قطز :
بقد سار بيبرس على نهج صديقه عمل بوصيته التي أوصاه بها قبل موته, فوفي للإسلام حقه وقاتل أعدائه من التتار والصليبيين حتى أذلهم ونهض بمصر وأعلى مكانتها حتى أصبحت في عهده إمبراطورية عظيمة .
كيف اكتشف بيبرس حقيقة قطز ؟
ذات يوم كان يقلب بيبرس في بعض أوراق قطز فوجد كتابا من ابن الزعيم له هذا نصه "إلى ولدي الأعز الأجل : (الملك المظفر قطز) :
تلقيت كتابك جواب التهنئة باعتلائك عرش مصر, تذكر فيه عزمك على الرجوع إلى اسمك الأول الذي سماك به أبوك (الأمير ممدود) وإشهاره, ثم عدولك عن ذلك خشية أن ينتقض عليك الأمراء المماليك إذا علموا أصلك, وتستشيرني في ذلك, فالرأي عندي ما رأيت, وليس العبرة بالأسماء, ولكن بالخلال والأعمال, والله يعلم أنك (محمود بن ممدود ابن أخت السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه) وأن التي تحت عصمتك هي ابنة خالك (جلال الدين), فحسبك هذا من ربك, والناس يعلمون أنك مملوك علت به همته وكفايته وصلاحه, حتى صار من أعظم ملوك المسلمين وأعدلهم, وحسبك هذا من الناس.
والسلام مني ومن خادمك الأمين الحاج (علي الفراش), علك وعلى شيخنا الإمام (عز الدين بن عبد السلام) السلام, ورحمة الله وبركاته. [خادمك المطيع ابن الزعيم]
ما أثر قراءة بيبرس لهذا الكتاب ؟
سالت من عينيه دمعتان كبيرتان على خديه, وقال بصوت لا يسمعه غيره"رحمك الله يا صديقي (قطز) لشد ما أتعبني اقتفاء أثرك وما أراني بعد الجهد

مع أطيب المنى

ليست هناك تعليقات: